أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [الْعَلَقِ: ٩] الْتَفَتَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْكَافِرِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ يَا كَافِرُ إِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ هُدًى وَدُعَاؤُهُ إِلَى اللَّهِ أَمْرًا بِالتَّقْوَى أَتَنْهَاهُ مَعَ ذَلِكَ.
المسألة الثانية: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ الصَّلَاةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى والمذكور هاهنا أَمْرَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَلِمَ ضَمَّ إِلَيْهِ شَيْئًا ثَانِيًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟ جَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي شَقَّ عَلَى أَبِي جَهْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ إلى الله، فلا جرم ذكرهما هاهنا وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي إِصْلَاحِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْهُدَى وَآمِرًا بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ يَرِقُّ قَلْبُهُ فَيَمِيلُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَكَانَ فِعْلُ الصَّلَاةِ دَعْوَةً بِلِسَانِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الدَّعْوَةِ بِلِسَانِ الْقَوْلِ. ثم قال تعالى:
[سورة العلق (٩٦) : آية ١٣]
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣)
وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ جَلِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ، أَنَّ مَنْعَ الْعَبْدِ مِنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ فِعْلٌ بَاطِلٌ وَسَفَهٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَنْ كُلُّ مَنْ كَذَّبَ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ وَتَوَلَّى عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ بَلْ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ السَّلِيمِ أَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا عِنَادًا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: أَرَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَذَّبَ هَذَا الْكَافِرُ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَتَوَلَّى عَنْ خِدْمَةِ خَالِقِهِ، أَلَمْ يَعْلَمْ بِعَقْلِهِ أَنَّ اللَّهَ يَرَى مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ وَيَعْلَمُهَا، أَفَلَا يَزْجُرُهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ، وَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ يَا كَافِرُ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا أَوْ مُتَوَلِّيًا، أَلَا يَعْلَمُ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى حَتَّى يَنْتَهِيَ بَلِ احتاج إلى نهيك. أما قوله:
[سورة العلق (٩٦) : آية ١٤]
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤)
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّهْدِيدُ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ حَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ، عَالِمٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَلَا بُدَّ وَأَنَّ يُوصِلَ جَزَاءَ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ بِتَمَامِهِ فَيَكُونُ هَذَا تَخْوِيفًا شَدِيدًا لِلْعُصَاةِ، وَتَرْغِيبًا عَظِيمًا لِأَهْلِ الطَّاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي جَهْلٍ فَكُلُّ مَنْ نَهَى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ شَرِيكُ أَبِي جَهْلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَلَا يَرُدُّ الْمَوْلَى بِمَنْعِ عَبْدِهِ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ/ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ وَزَوْجَتِهِ عَنِ الِاعْتِكَافِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِاسْتِيفَاءِ مَصْلَحَتِهِ بإذن ربه لا بغضا لعبادة ربه.
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦)