وإنه لفي خسر القول الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْعَصْرِ أَحَدُ طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهُ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالْعَصْرِ كَمَا أَقْسَمَ بِالضُّحَى لِمَا فِيهِمَا جَمِيعًا مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ كُلَّ بَكْرَةٍ كَأَنَّهَا الْقِيَامَةُ يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ وَتَصِيرُ الْأَمْوَاتُ أَحْيَاءً وَيُقَامُ الْمَوَازِينُ وَكُلَّ عَشِيَّةٍ تُشْبِهُ تَخْرِيبَ الدُّنْيَا بِالصَّعْقِ وَالْمَوْتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ شَاهِدُ عَدْلٍ ثُمَّ إِذَا لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ عَقِيبَ الشَّاهِدَيْنِ عُدَّ خَاسِرًا فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسرو ثانيها: قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا أَقْسَمَ بِهَذَا الْوَقْتِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَسْوَاقَ قَدْ دَنَا وَقْتُ انْقِطَاعِهَا وَانْتِهَاءُ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ فِيهَا، فَإِذَا لَمْ تَكْتَسِبْ وَدَخَلْتَ الدَّارَ وَطَافَ الْعِيَالُ عَلَيْكَ يَسْأَلُكَ كُلُّ أَحَدٍ مَا هُوَ حَقُّهُ فَحِينَئِذٍ تَخْجَلُ فَتَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَكَذَا نَقُولُ: وَالْعَصْرِ أَيْ عَصْرِ الدُّنْيَا قَدْ دَنَتِ الْقِيَامَةُ وَ [أَنْتَ] بَعْدُ لَمْ تَسْتَعِدَّ وَتَعْلَمْ أَنَّكَ تُسْأَلُ غَدًا عَنِ النَّعِيمِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ فِي دُنْيَاكَ، وَتُسْأَلُ فِي مُعَامَلَتِكَ مَعَ الْخَلْقِ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْمَظْلُومِينَ يَدَّعِي مَا عَلَيْكَ فَإِذًا أَنْتَ خَاسِرٌ، وَنَظِيرُهُ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١]، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مُعَظَّمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
فَكَمَا أَقْسَمَ فِي حَقِّ الرَّابِحِ بِالضُّحَى فَكَذَا أَقْسَمَ فِي حَقِّ الْخَاسِرِ بِالْعَصْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بالضحى في حق الربح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال وهاهنا فِي حَقِّ الْخَاسِرِ تَوَعَّدَهُ أَنْ أَمْرَهُ إِلَى الْإِدْبَارِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ يَقُولُ بَعْضُ النَّهَارِ بَاقٍ فَيَحُثُّهُ عَلَى التَّدَارُكِ فِي الْبَقِيَّةِ بِالتَّوْبَةِ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: تَعَلَّمْتُ مَعْنَى السُّورَةِ مِنْ بَائِعِ الثَّلْجِ كَانَ يَصِيحُ وَيَقُولُ: ارْحَمُوا مَنْ يَذُوبُ رَأْسُ مَالِهِ، ارْحَمُوا مَنْ يَذُوبُ رَأْسُ مَالِهِ فَقُلْتُ: هَذَا مَعْنَى:
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ يَمُرُّ بِهِ الْعَصْرُ فَيَمْضِي عُمُرُهُ وَلَا يَكْتَسِبُ فَإِذًا هُوَ خَاسِرٌ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: أَرَادَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ لِفَضْلِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: ٢٣٨] صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ [الْمَائِدَةِ: ١٠٦] إِنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي أَدَائِهَا أَشَقُّ لِتَهَافُتِ النَّاسِ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمَعَايِشِهِمْ وَرَابِعُهَا:
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَصِيحُ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَتَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا مَاذَا حَدَثَ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي غَابَ عَنِّي فَزَنَيْتُ فَجَاءَنِي وَلَدٌ مِنَ الزِّنَا فَأَلْقَيْتُ الْوَلَدَ فِي دَنٍّ مِنَ الْخَلِّ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ بِعْنَا ذَلِكَ الْخَلَّ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَّا الزِّنَا فَعَلَيْكِ الرَّجْمُ، أَمَّا قَتْلُ الْوَلَدِ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، وَأَمَّا بَيْعُ الْخَلِّ فَقَدِ ارْتَكَبْتِ كَبِيرًا، لَكِنْ ظَنَنْتُ أنك تركت صلاة/ صَلَاةَ الْعَصْرِ»
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْخِيمِ أَمْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ «١» وَخَامِسُهَا: أَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ بِهَا يَحْصُلُ خَتْمُ طَاعَاتِ النَّهَارِ، فَهِيَ كَالتَّوْبَةِ بِهَا يُخْتَمُ الْأَعْمَالُ، فَكَمَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ بِالتَّوْبَةِ كَذَا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، فَأَقْسَمَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا، وَزِيَادَةَ تَوْصِيَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى أَدَائِهَا وَإِشَارَةً مِنْهُ أَنَّكَ إِنْ أَدَّيْتَهَا عَلَى وَجْهِهَا عَادَ خُسْرَانُكَ رِبْحًا، كَمَا قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء: ٢٢٧] وَسَادِسُهَا:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
-[عُدَّ] مِنْهُمْ-
رَجُلٌ حَلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا»
فَإِنْ قِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِعْلُنَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَقْسَمَ الله تعالى به؟ والجواب: أنه ليس