فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي تَعْظِيمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِثْلَ اعْتِقَادِ الْيَهُودِ وَأَكْثَرَ، فَكَيْفَ أَعَانُوا عَلَى تَخْرِيبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ مَنَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الله بمكة وألجؤه إِلَى الْهِجْرَةِ، فَصَارُوا مَانِعِينَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَى مَسْجِدًا عِنْدَ دَارِهِ فَمُنِعَ وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ وِلْدَانُ قُرَيْشٍ وَنِسَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الْإِسْرَاءِ: ١١٠] نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ فَمُنِعَ مِنَ الْجَهْرِ لِئَلَّا يُؤْذَى، وَطَرَحَ أبو جهل العذرة على ظهر لنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُوَحِّدُونَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا وَيُصَلُّونَ لَهُ تَذَلُّلًا وَخُشُوعًا، وَيَشْغَلُونَ قُلُوبَهُمْ بِالْفِكْرِ فِيهِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالذِّكْرِ لَهُ، وَجَمِيعَ جَسَدِهِمْ بِالتَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ صَدُّوهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حِينَ ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَدِينَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْفَتْحِ: ٢٥] وَبِقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَالِ: ٣٤] وَحَمَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا خائِفِينَ بِمَا يُعْلِي اللَّهُ مِنْ يَدِهِ، وَيُظْهِرُ مِنْ كَلِمَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَابِ: ٦٠- ٦١] وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى رِعَايَةِ النَّظْمِ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ فَكَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَعَلَّهُمْ سَعَوْا أَيْضًا فِي تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ بِأَنْ حَمَلُوا بَعْضَ الْكُفَّارِ عَلَى تَخْرِيبِهَا، وَسَعَوْا أَيْضًا فِي تَخْرِيبِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُصَلُّوا فِيهِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَعَابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَبَيَّنَ سُوءَ طَرِيقَتِهِمْ فِيهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا قَبَائِحَ أَفْعَالِ الْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى، وَذَكَرَ أَيْضًا بَعْدَهَا قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا قَبَائِحَ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي صَدِّهِمُ الرَّسُولَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سَعْيِ النَّصَارَى فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَضَعِيفٌ أَيْضًا عَلَى مَا شَرَحَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: فَأَمَّا مَنْ حَمَلَهَا عَلَى النَّصَارَى وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: تَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّصَارَى ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَطْ، فَقِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكُونُونَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ مُعَامَلَتَكُمْ فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ وَالسَّعْيِ فِي خَرَابِهَا هَكَذَا، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ قَالَ: جَرَى ذِكْرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١١٣] وَقِيلَ: جَرَى ذِكْرُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَذَمُّهُمْ، فَمَرَّةً وَجَّهَ الذَّمَّ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَرَّةً إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَساجِدَ اللَّهِ عُمُومٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: قَدْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْجِدٌ بِمَكَّةَ يَدْعُو اللَّهَ فِيهِ، فَخَرَّبُوهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ حَيْثُ فَسَّرَ الْمَنْعَ بِصَدِّ الرَّسُولِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ لَفْظِ الْمَسَاجِدِ عَلَى مَسْجِدٍ وَاحِدٍ؟
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: هَذَا كَمَنَ يَقُولُ لِمَنْ آذَى صَالِحًا وَاحِدًا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ آذَى الصَّالِحِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مَسْجِدًا وَاحِدًا بَلْ مَسَاجِدَ.