[الْمَائِدَةِ: ١] وَقَالَ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: ٢، ٣] وَأَمَّا عَهْدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ فِيهِ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ١١١] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ إِلَى أَبِينَا آدَمَ فَقَالَ:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي/ آدَمَ [يس: ٦٠] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٣] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ عَهْدِهِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ عَهْدَهُ لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ الشَّدِيدَةُ فِي هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ تَقْتَضِي الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ فَنَقُولُ: الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْكَ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْعَهْدُ الَّذِي الْتَزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جِهَتِهِ لَيْسَ إِلَّا عَهْدَ الرَّحْمَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَأَمَّلَ فِي حَالِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا نَقْضَ هَذَا الْعَهْدِ، وَمِنْ رَبِّهِ إِلَّا الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَلْنَشْرَعْ فِي مَعَاقِدِ هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ: أَوَّلُ إِنْعَامِهِ عَلَيْكَ إِنْعَامُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِحْيَاءِ وَإِعْطَاءِ الْعَقْلِ وَالْآلَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ اشْتِغَالُكَ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَبَثِ فَقَالَ:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: ١٦] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: ٣٩] وَقَالَ أَيْضًا: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: ٢٧] وَقَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ فَقَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَفَّى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ حَيْثُ خَلَقَكَ وَأَحْيَاكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ بِوُجُوهِ النِّعَمِ وَجَعَلَكَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا فَإِذَا لَمْ تَشْتَغِلْ بِخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ فَقَدْ نَقَضْتَ عَهْدَ عُبُودِيَّتِكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَفَّى بِعَهْدِ رُبُوبِيَّتِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ عَهْدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي إِعْطَاءَ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَعَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْكَ يَقْتَضِي الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَفَّى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُ مَا تَرَكَ ذَرَّةً مِنَ الذَّرَّاتِ إِلَّا وَجَعَلَهَا هَادِيَةً لَكَ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] وَأَنْتَ مَا وَفَّيْتَ الْبَتَّةَ بِعَهْدِ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ لَوْ فَاتَتْكَ لَكُنْتَ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: ٥٣] ثُمَّ مَعَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ عَلَيْهَا وَقَالَ: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاءِ: ١٩] فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَشْكُرُكَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ فَبِأَنْ تَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّكَ مَا أَتَيْتَ إِلَّا بِالْكُفْرَانِ عَلَى مَا قَالَ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: ١٧] فَهُوَ تَعَالَى وَفَّى بِعَهْدِهِ، وَأَنْتَ نَقَضْتَ عَهْدَكَ. وَرَابِعُهَا: أَنْ تُنْفَقَ نِعَمُهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ، فَعَهْدُهُ مَعَكَ أَنْ يُعْطِيَكَ أَصْنَافَ النِّعَمِ وَقَدْ فَعَلَ وَعَهْدُكَ مَعَهُ أَنْ تَصْرِفَ نِعَمَهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ وَأَنْتَ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: ٦، ٧]. وَخَامِسُهَا:
أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ لِتَكُونَ مُحْسِنًا إِلَى الْفُقَرَاءِ: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ثُمَّ إِنَّكَ تَوَسَّلْتَ بِهِ إِلَى إِيذَاءِ النَّاسِ وإيحاشهم: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الحديد: ٢٤] [النِّسَاءِ: ٣٧]. وَسَادِسُهَا:
أَعْطَاكَ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ لِتَكُونَ مُقْبِلًا على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إن السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ لَوْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِخُلْعَةٍ نَفِيسَةٍ، ثُمَّ إِنَّكَ فِي حَضْرَتِهِ تُعْرِضُ عَنْهُ وَتَبْقَى مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ بَعْضِ الْأَسْقَاطِ كَيْفَ تَسْتَوْجِبُ الْأَدَبَ والمقت فكذا هاهنا، وَاعْلَمْ أَنَّا لَوِ اشْتَغَلْنَا/ بِشَرْحِ كَيْفِيَّةِ وَفَائِهِ سُبْحَانَهُ بِعَهْدِ الْإِحْسَانِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَكَيْفِيَّةِ نَقْضِنَا لِعَهْدِ الإخلاص