أما قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ خُطُواتِ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِ الطَّاءِ، أَمَّا مَنْ ضَمَّ الْعَيْنَ فَلِأَنَّ الْوَاحِدَةَ خُطْوَةٌ فَإِذَا جَمَعْتَ حَرَّكْتَ الْعَيْنَ لِلْجَمْعِ، كَمَا فُعِلَ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَى هَذَا الْوَزْنِ نَحْوَ غُرْفَةٍ وَغُرُفَاتٍ، وَتَحْرِيكُ الْعَيْنِ لِلْجَمْعِ كَمَا فُعِلَ فِي نَحْوِ هَذَا الْجَمْعِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ اسْمًا جَمَعْتَهُ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ نَحْوَ تَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ وَغُرْفَةٍ وَغُرُفَاتٍ وَشَهْوَةٍ وَشَهَوَاتٍ، وَمَا كَانَ نَعْتًا جُمِعَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ نَحْوَ ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ وَعَبْلَةٍ وَعَبْلَاتٍ، وَالْخُطْوَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ لَا مِنَ الصِّفَاتِ فَيُجْمَعُ بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّفَ الْعَيْنَ فَبَقَّاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَطَلَبَ الْخِفَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْجُبَّائِيُّ الْخَطْوَةُ وَالْخُطْوَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ:
خَطَوْتُ خَطْوَةً وَالْخُطْوَةُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا يُقَالُ: حَثَوْتُ حَثْوَةً، وَالْحُثْوَةُ اسْمٌ لِمَا تَحَثَّيْتَ، وَكَذَلِكَ غَرَفْتُ غَرْفَةً وَالْغُرْفَةُ اسْمٌ لِمَا اغْتَرَفْتَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْخُطْوَةُ الْمَكَانُ الْمُتَخَطَّى كَمَا أَنَّ الْغُرْفَةَ هِيَ الشَّيْءُ الْمُغْتَرَفُ بِالْكَفِّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَتَّبِعُوا سَبِيلَهُ وَلَا تَسْلُكُوا طَرِيقَهُ لِأَنَّ الْخُطْوَةَ اسْمُ مَكَانٍ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: خطوات الشيطان طرفه وَإِنْ جَعَلْتَ الْخَطْوَةَ بِمَعْنَى الْخُطْوَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَالتَّقْدِيرُ: لَا تَأْتَمُّوا بِهِ وَلَا تَقْفُوا أَثَرَهُ وَالْمَعْنَيَانِ مُقَارِبَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّقْدِيرَانِ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَيْسَ مُرَادُ الله هاهنا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ بَلْ كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ احْذَرْ أَنْ تَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَزَجْرُ الْمُكَلَّفِ بِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ تَخَطِّي الْحَلَالِ إِلَى الشُّبَهِ كَمَا زَجَرَهُ عَنْ تَخَطِّيهِ إِلَى الْحَرَامِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُلْقِي إِلَى الْمَرْءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ فَيُزَيِّنُ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَزَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي هَذَا/ التَّحْذِيرِ، وهو كونه عدوا مبنيا أَيْ مُتَظَاهِرٌ بِالْعَدَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ الْتَزَمَ أُمُورًا سَبْعَةً فِي الْعَدَاوَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ١١٩] وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٦، ١٧] فَلَمَّا الْتَزَمَ الشَّيْطَانُ هَذِهِ الْأُمُورَ كَانَ عَدُوًّا مُتَظَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ فَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَهَذَا كَالتَّفْصِيلِ لِجُمْلَةِ عَدَاوَتِهِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: السُّوءُ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ جَمِيعَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ أَوْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَثَانِيهَا: الْفَحْشَاءُ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ السُّوءِ، لِأَنَّهَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَعْظَمُ وَيُسْتَفْحَشُ من المعاصي وثالثها: أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَكَأَنَّهُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْفَحْشَاءِ، لِأَنَّهُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْكَبَائِرِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُو إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بالله، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتَهُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي نَجِدُهَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخَوَاطِرِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: اخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّاتِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ