الْفَرِيقُ الثَّانِي:
وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَبَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ فِي ثَمَانِيَةِ رَهْطٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَفْتَحَهُ بَعْدَ مَنْزِلَتَيْنِ، وَيَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ:
أَمَّا بَعْدُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنِ اتَّبَعَكَ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلٍ، فَتَرَصَّدَ بِهَا عِيرَ قُرَيْشٍ لَعَلَّكَ أَنْ تَأْتِيَنَا مِنْهُ بِخَيْرٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمْعًا/ وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْطَلِقْ مَعِي فَإِنِّي مَاضٍ لِأَمْرِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ التَّخَلُّفَ فَلْيَتَخَلَّفْ فَمَضَى حَتَّى بَلَغَ بَطْنَ نَخْلٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَثَلَاثَةٌ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَلَقُوا رَأْسَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَأَوْهَمُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ عُمَّارٌ، ثُمَّ أَتَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنْظَلِيُّ وَهُوَ أَحَدُ مِنْ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَرَمَى عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَأَسَرُّوا اثْنَيْنِ وَسَاقُوا الْعِيرَ بِمَا فِيهِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَجَّتْ قُرَيْشٌ وَقَالُوا: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، شَهْرٌ يَأْمَنُ فِيهِ الْخَائِفُ فَيَسْفِكُ فِيهِ الدِّمَاءَ، وَالْمُسْلِمُونَ أَيْضًا قَدِ اسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنِّي مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَتَلْنَا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، ثُمَّ أَمْسَيْنَا فَنَظَرْنَا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ فَلَا نَدْرِي أَفِي رَجَبٍ أَصَبْنَاهُ أَمْ فِي جُمَادَى فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأُسَارَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْغَنِيمَةَ،
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ إِنَّمَا صَدَرَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وهو خطاب مع المسلمين وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الْبَقَرَةِ: ٢١٩، ٢٢٠] وَثَالِثُهَا: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ كلهن في القرآن منها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ قَالُوا: سَأَلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ حَلَالٌ فَتَكُوا بِهِ وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُ فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَلَكِنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْكُفْرَ بِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قَوْلَهُ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْقِتَالَ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ جَائِزٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قِتالٍ فِيهِ خفض عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهَذَا يُسَمَّى بَدَلَ الِاشْتِمَالَ، كَقَوْلِكَ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ وَنَفَعَنِي زَيْدٌ كَلَامُهُ وَسُرِقَ زَيْدٌ مَالُهُ، وَسُلِبَ زَيْدٌ ثَوَابُهُ، قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ [الْبُرُوجِ: ٤، ٥] وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْخَفْضُ فِي قِتَالٍ عَلَى تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَالتَّقْدِيرُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالرَّبِيعِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الْأَعْرَافِ: ٧٥] وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ قَتْلٍ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: