عَقْلًا لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى عِقَالِ النَّاقَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا دَعَاهُ طَبْعُهُ إِلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ، كَانَ عَقْلُهُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ بَقِيَ الطَّبْعُ الدَّاعِي إِلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ خَالِيًا عَنِ الْعَقْلِ الْمَانِعِ مِنْهَا، وَالتَّقْرِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْلُومٌ، ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مَرَّ عَلَى سَكْرَانَ وَهُوَ يَبُولُ فِي يَدِهِ وَيَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ كَهَيْئَةِ الْمُتَوَضِّئِ، وَيَقُولُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِسْلَامَ نُورًا وَالْمَاءَ طَهُورًا، وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: لِمَ لَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي جَرَاءَتِكَ؟ فَقَالَ مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلُهُ جَوْفِي، وَلَا أَرْضَى أَنْ أُصْبِحَ سَيِّدَ قَوْمٍ وَأُمْسِيَ سَفِيهَهُمْ وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَثَالِثُهَا:
أَنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ مِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهُ بِهَا أَكْثَرَ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهَا أَتَمَّ كَانَ الْمَيْلُ إِلَيْهَا أَكْثَرَ وَقُوَّةُ النَّفْسِ عَلَيْهَا أَقْوَى بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، مِثْلُ الزَّانِي إِذَا فَعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَكُلَّمَا كَانَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَكْثَرَ كَانَ فُتُورُهُ أَكْثَرَ وَنُفْرَتُهُ أَتَمَّ، بِخِلَافِ الشُّرْبِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، كَانَ نَشَاطُهُ أَكْثَرَ، وَرَغْبَتُهُ فِيهِ أَتَمَّ. فَإِذَا وَاظَبَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ صَارَ الْإِنْسَانُ غَرِقًا فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، مُعْرِضًا عَنْ تَذَكُّرِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَادِ، حَتَّى يَصِيرَ مِنَ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَمْرُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْلُ/ حَصَلَتِ الْقَبَائِحُ بِأَسْرِهَا وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ»
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَالْإِثْمُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْعَدَاوَةِ، وَأَيْضًا لِمَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الشَّتْمِ وَالْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَيْضًا يُورِثُ الْعَدَاوَةَ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ إِذَا أَخَذَ مَالَهُ مَجَّانًا أَبْغَضَهُ جِدًّا، وَهُوَ أَيْضًا يَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فَمَنَافِعُ الْخَمْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَغَالَوْنَ بِهَا إِذَا جَلَبُوهَا مِنَ النَّوَاحِي، وَكَانَ الْمُشْتَرِي إِذَا تَرَكَ الْمُمَاكَسَةَ فِي الثَّمَنِ كَانُوا يَعُدُّونَ ذَلِكَ فَضِيلَةً وَمَكْرُمَةً، فَكَانَ تَكْثُرُ أَرْبَاحُهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُقَوِّي الضَّعِيفَ وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ وَيُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَيُسَلِّي الْمَحْزُونَ، وَيُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَيُسَخِّي الْبَخِيلَ وَيُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُنْعِشُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ وَيَزِيدُ فِي الْهِمَّةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ «١» وَمِنْ مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ: التَّوْسِعَةُ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ لِأَنَّ مَنْ قَمَرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْجَزُورِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُفَرِّقُهُ فِي الْمُحْتَاجِينَ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ رُبَّمَا قَمَرَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ بَعِيرٍ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَالٌ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَتَعَبٍ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ، فَيَكْتَسِبُ مِنْهُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كَثِيرٌ بِالثَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ وَالْبَاقُونَ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ حُجَّةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْإِثْمِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الْمَائِدَةِ: ٩١] فَذَكَرَ أَعْدَادًا مِنَ الذُّنُوبِ فِيهِمَا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ عَشْرَةً بِسَبَبِ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْإِثْمِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْإِثْمَ في هذه الآية كالمضاد

(١) قول الفخر رحمه الله تعالى في شرب الخمر: أَنَّهُ يُقَوِّي الضَّعِيفَ، وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ، وَيُعِينُ عَلَى الْبَاهِ، وَيُسَلِّي الْمَحْزُونَ وَيُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَيُسَخِّي الْبَخِيلَ، وَيُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُنْعِشُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ، وَيَزِيدُ فِي الهمة والاستعلاء، هو قول عجيب لا يصدر من لبيب ولو كان فيها من المزايا بعض ما ذكر: لما منعنا الله تعالى عنها، وأحرمنا منها، ولم ينهنا تعالى إلا عما فيه فساد الدين والبدن، فله الحمد على أمره ونهيه، وتحريمه وتحليله!.
والخمر: كما يشهد بذلك العقل والطب، تضعف القوى، وتعسر الهضم، وتتلف المعدة، وتضعف الباه، وإن دل ظاهرها على إذهاب الحزن، فهي جالبة للهم والغم والكدر، وتورث الشجاع الجبن والخور، وتحض الكريم على البخل، وتفسد الدم وتكدر اللون وتظهر غضون الوجه، وهي في جملتها مبعث لسائر الشرور والفجور والخصال الذميمة.
أما تأويل قوله تعالى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فهو خاص بالمنافع الدنيوية الفانية والربح التجاري الزائل. انتهى مصححه.


الصفحة التالية
Icon