هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمَنِ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا أَللَّهُمَّ وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
وَأَمَّا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا | سَبَّحْتِ أَوْ صَلَّيْتِ يَا اللَّهُمَّا |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مالِكَ الْمُلْكِ فِي نَصْبِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ منصوب على النداء، وكذلك قوله قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزُّمَرِ: ٤٦] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ لِأَنَّ قَوْلَنَا اللَّهُمَّ مَجْمُوعُ الِاسْمِ وَالْحَرْفِ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ وَالثَّانِي: وَهُوَ/ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ أَنَّ مالِكَ وَصْفٌ لِلْمُنَادَى الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ وَمَعَهُ الْمِيمُ بِمَنْزِلَتِهِ وَمَعَهُ (يَا) وَلَا يَمْتَنِعُ الصِّفَةُ مَعَ الْمِيمِ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ مَعَ الْيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ وَعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ:
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مِنْ أَيْنَ لِمُحَمَّدٍ مُلْكُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ أَعَزُّ وَأَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَطَّ الْخَنْدَقَ عَامَ الْأَحْزَابِ، وَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَأَخَذُوا يَحْفِرُونَ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ لَمْ تَعْمَلْ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَوَجَّهُوا سَلْمَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَبَّرَهُ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ سَلْمَانَ فَلَمَّا ضَرَبَهَا ضَرْبَةً صَدَّعَهَا وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَأَنَّهُ مِصْبَاحٌ فِي جَوْفِ لَيْلٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ الْحِيرَةِ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا الْقُصُورُ الْحُمْرُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ» ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ صَنْعَاءَ وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَى كُلِّهَا فَأَبْشِرُوا» فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ نَبِيِّكُمْ يَعِدُكُمُ الْبَاطِلَ وَيُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يُبْصِرُ مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيرَةِ وَمَدَايِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ مِنَ الْخَوْفِ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَخْرُجُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الْحَسَنُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَيَرُدَّ ذُلَّ الْعَرَبِ عَلَيْهِمَا، وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ هَذَا الدُّعَاءَ، وَهَكَذَا مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا أُمِرُوا بِدُعَاءٍ اسْتُجِيبَ دعاءهم.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُلْكِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْقَادِرُ، فَقَوْلُهُ مالِكَ الْمُلْكِ مَعْنَاهُ الْقَادِرُ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَالْمَعْنَى إِنَّ قُدْرَةَ الْخَلْقِ عَلَى كُلِّ ما يقدرون عليه ليست بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي يُقْدِرُ كُلَّ قَادِرٍ عَلَى مَقْدُورِهِ،