شَيْخُوخَتِهِ، فَقَوْلُهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ مَعْنَاهُ: كَيْفَ تُعْطِي الْوَلَدَ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَمْ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي؟ فَقِيلَ لَهُ كَذَلِكَ، أَيْ عَلَى هَذَا الْحَالِ وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَالْأَصَمُّ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ آيِسًا مِنَ الشَّيْءِ مُسْتَبْعِدًا لِحُصُولِهِ وَوُقُوعِهِ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ فَرُبَّمَا صَارَ كَالْمَدْهُوشِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ فَيَقُولُ: كَيْفَ حَصَلَ هَذَا، وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ هَذَا كَمَنْ يَرَى إِنْسَانًا وَهَبَهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، يَقُولُ كَيْفَ وَهَبْتَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، وَمِنْ أَيْنَ سَمَحَتْ نَفْسُكَ بِهِبَتِهَا؟ فَكَذَا هَاهُنَا لَمَّا كَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَبْعِدًا لِذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ إِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ، صَارَ مِنْ عِظَمِ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ قَالَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُ بِيَحْيَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُرْزَقُ الْوَلَدَ مِنْ جِهَةِ أُنْثَى أَوْ مِنْ صُلْبِهِ، فَذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الِاشْتِيَاقِ إِلَى شَيْءٍ فَطَلَبَهُ مِنَ السَّيِّدِ، ثُمَّ إِنَّ/ السَّيِّدَ يَعِدُهُ بِأَنَّهُ سَيُعْطِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْتَذَّ السَّائِلُ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ، فَرُبَّمَا أَعَادَ السُّؤَالَ لِيُعِيدَ ذَلِكَ الْجَوَابَ فَحِينَئِذٍ يَلْتَذُّ بِسَمَاعِ تِلْكَ الْإِجَابَةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَالسَّبَبُ فِي إِعَادَةِ زَكَرِيَّا هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْخَامِسُ: نَقَلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ دُعَاؤُهُ قَبْلَ الْبِشَارَةِ بِسِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَانَ قَدْ نُسِّيَ ذَلِكَ السُّؤَالَ وَقْتَ الْبِشَارَةِ فَلَمَّا سَمِعَ الْبِشَارَةَ زَمَانَ الشَّيْخُوخَةِ لَا جَرَمَ اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ لَا شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ مَا قَالَ السَّادِسُ: نُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ سَمَاعِ الْبِشَارَةِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الصَّوْتَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ سَخِرَ مِنْكَ فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ:
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُرِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنَ الْوَحْيِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ بِكَلَامِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ عَنْ كُلِّ الشَّرَائِعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا قَامَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى صِدْقِ الْوَحْيِ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ لَا جَرَمَ حَصَلَ الْوُثُوقُ هُنَاكَ بِأَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَبِالْوَلَدِ فَرُبَّمَا لَمْ يَتَأَكَّدْ ذَلِكَ الْمُعْجِزُ فَلَا جَرَمَ بَقِيَ احْتِمَالُ كَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَا جَرَمَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يُزِيلَ عَنْ خَاطِرِهِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِبَرُ مَصْدَرُ كَبِرَ الرَّجُلُ يَكْبَرُ إِذَا أَسَنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَوْمَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ تِسْعِينَ وَثَمَانٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: كُلُّ شَيْءٍ صَادَفْتَهُ وَبَلَغْتَهُ فَقَدْ صَادَفَكَ وَبَلَغَكَ، وَكُلَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ:
بَلَغْتُ الْكِبَرَ جَازَ أَنْ يَقُولَ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَقِيتُ الْحَائِطَ، وَتَلَقَّانِي الْحَائِطُ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ بَلَغَنِيَ الْبَلَدُ فِي مَوْضِعِ بَلَغْتُ الْبَلَدَ، قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الْكِبَرَ كَالشَّيْءِ الطَّالِبِ لِلْإِنْسَانِ فَهُوَ يَأْتِيهِ بِحُدُوثِهِ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ أَيْضًا يَأْتِيهِ بِمُرُورِ السِّنِينَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْبَلَدُ فَلَيْسَ كَالطَّالِبِ لِلْإِنْسَانِ الذَّاهِبِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ.
اعْلَمْ أَنَّ الْعَاقِرَ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَا تَلِدُ، يُقَالُ: عَقَرَ يَعْقِرُ عَقْرًا، وَيُقَالُ أَيْضًا عَقَرَ الرَّجُلُ، وَعَقُرَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَافِ إِذَا لَمْ يُحْمَلْ لَهُ، وَرَمْلٌ عَاقِرٌ: لَا يُنْبِتُ شَيْئًا، وَاعْلَمْ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ كِبَرَ نَفْسِهِ مَعَ


الصفحة التالية
Icon