الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة، كَمَا يُقَالُ: هَذَا بِهَذَا أَيْ هَذَا عِوَضٌ عَنْ ذَاكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى «مَعَ» وَالتَّقْدِيرُ: أَثَابَهُمْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّكُمْ لَمَّا أَذَقْتُمُ الرَّسُولَ غَمًّا بِسَبَبِ أَنْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَذَاقَكُمْ هَذَا الْغَمَّ، وَهُوَ الْغَمُّ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ الِانْهِزَامِ وَقَتْلِ الْأَحْبَابِ، وَالْمَعْنَى جَازَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ بِهَذَا الْغَمِّ.
الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: يُرِيدُ غَمَّ يَوْمِ أُحُدٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَمِّ يَوْمِ/ بَدْرٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِكُمُ الْتِفَاتٌ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَا تَفْرَحُوا بِإِقْبَالِهَا ولا تحزنوا بإدبارها، وهو المعنى بقوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الْحَدِيدِ: ٢٣] فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ، طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: إِنَّ غَمَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ وَمَعْصِيَةٌ، فَكَيْفَ يُضِيفُهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ؟
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَوْعَ مَصْلَحَةٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفْرَحُوا بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا وَلَا يَحْزَنُوا بِإِدْبَارِهَا، فَلَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمِ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَأَثابَكُمْ يَعُودُ لِلرَّسُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَقُتِلَ عَمُّهُ، اغْتَمُّوا لِأَجْلِهِ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ عَصَوْا رَبَّهُمْ لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ بَقُوا مَحْرُومِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَقُتِلَ أَقَارِبُهُمُ اغْتَمَّ لِأَجْلِهِمْ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ هُوَ هَذَا، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ بِمَعْنَى «مَعَ» أَيْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، أَوْ غَمًّا عَلَى غَمٍّ، فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ بَعْضٍ، تَقُولُ: مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى فَعَلَ، وَمَا زِلْتُ مَعَهُ حَتَّى فَعَلَ، وَتَقُولُ: نَزَلْتُ بِبَنِي فُلَانٍ، وَعَلَى بَنِي فُلَانٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغُمُومَ هُنَاكَ كَانَتْ كَثِيرَةً: فأحدها: غَمُّهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ. وَثَانِيهَا:
غَمُّهُمْ بِمَا لَحِقَ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ، وَثَالِثُهَا: غَمُّهُمْ بِمَا وَصَلَ إِلَى الرَّسُولِ مِنَ الشَّجَّةِ وَكَسْرِ الرَّبَاعِيَةِ، وَرَابِعُهَا: مَا أُرْجِفَ بِهِ مِنْ قَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَامِسُهَا: بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا يَخَافُونَ مِنْ عِقَابِهَا، وَسَادِسُهَا: غَمُّهُمْ بِسَبَبِ التَّوْبَةِ الَّتِي صَارَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَابُوا عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ تَتِمَّ تَوْبَتُهُمْ إِلَّا بِتَرْكِ الْهَزِيمَةِ وَالْعَوْدِ إِلَى الْمُحَارَبَةِ بَعْدَ الِانْهِزَامِ، وَذَلِكَ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مُنْهَزِمًا يَصِيرُ ضَعِيفَ الْقَلْبِ جَبَانًا، فَإِذَا أُمِرَ بِالْمُعَاوَدَةِ، فَإِنْ فَعَلَ خَافَ الْقَتْلَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَافَ الْكُفْرَ أَوْ عِقَابَ الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْغَمُّ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْظَمُ الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَنَحْنُ نَعُدُّهَا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا أَصَابَهُمْ عِنْدَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا حَصَلَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ فَوْتِ الْغَنَائِمِ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا حَصَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ اطَّلَعَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمْعًا عَظِيمًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا كَانَ عِنْدَ تَوَجُّهِ أَبِي سُفْيَانَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْغَمَّ الثَّانِي هُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَجَعُوا خَافَ الْبَاقُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا لَقَتَلُوا/ الْكُلَّ فَصَارَ هَذَا الْغَمُّ بِحَيْثُ أَذْهَلَهُمْ عَنِ الْغَمِّ الْأَوَّلِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أراد


الصفحة التالية
Icon