الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَوَابِ: قَوْلُهُ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ، وَالتَّدْبِيرَ لَا يُقَاوِمُ التَّقْدِيرَ، فَالَّذِينَ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْتَلُوا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقْتَلُ، فَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهِ إِلَى إِيجَادِ الله تعالى، فلو لم يوجد لَانْقَلَبَتْ قُدْرَتُهُ عَجْزًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْوُجُوبِ كَمَا قَرَّرْنَا قَوْلُهُ: الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ وهذا الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] تُفِيدُ وُجُوبَ الْفِعْلِ، وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى وُجُوبِ الْوُجُودِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِمَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِالتَّوْفِيقِ. ثُمَّ نَقُولُ لِلْمُفَسِّرِينَ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَوْ جَلَسْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَخَرَجَ مِنْكُمْ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَمَصَارِعِهِمْ حَتَّى يُوجَدَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُوجَدُ، وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ لَوْ جَلَسْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَتَخَلَّفْتُمْ عَنِ الْجِهَادِ لَخَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْكُفَّارِ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَلَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِسَبَبِ تَخَلُّفِكُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ: قَوْلُهُ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ زَعَمُوا أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى تِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ كَانَ مَفْسَدَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ، لَمَا خَرَجُوا إِلَيْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: بَلْ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ: أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُوَافِقُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَفِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: لَا تَكْرَهُوا الْفِتَنَ فَإِنَّهَا حَصَادُ الْمُنَافِقِينَ، وَمَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ مِرَارًا كَثِيرَةً.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ الِابْتِلَاءَ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٢].
قُلْنَا: لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أَعَادَ ذِكْرَهُ، وَقِيلَ الِابْتِلَاءُ الْأَوَّلُ هَزِيمَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالثَّانِي سَائِرُ الْأَحْوَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: قَوْلُهُ: وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ/ الْوَاقِعَةَ تُمَحِّصُ قُلُوبَكُمْ عَنِ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَصِيرُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِكُمْ فُتُمَحِّصُكُمْ عَنْ تَبِعَاتِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَذَكَرَ فِي الِابْتِلَاءِ الصُّدُورَ، وَفِي التَّمْحِيصِ الْقُلُوبَ، وَفِيهِ بَحْثٌ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَاتَ الصُّدُورِ هِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الصُّدُورِ، وَهِيَ الْأَسْرَارُ وَالضَّمَائِرُ، وَهِيَ ذَاتُ الصُّدُورِ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ فِيهَا مُصَاحِبَةٌ لَهَا، وَصَاحِبُ الشَّيْءِ ذُوهُ وَصَاحِبَتُهُ ذَاتُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ابْتِلَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي الصُّدُورِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَإِنَّمَا ابْتَلَاهُمْ إِمَّا لِمَحْضِ الْإِلَهِيَّةِ، أو للاستصلاح.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجَمْعَيْنِ وَفَارَقُوا الْمَكَانَ وَانْهَزَمُوا قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَتِ الْأَخْبَارُ فِيمَنْ ثَبَتَ ذلك اليوم وفيمن، فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ ثُلْثَ