وَلَكِنَّهَا لَا تَدُومُ وَلَا تَسْتَمِرُّ، بَلْ تَنْقَطِعُ وَتَفْنَى، وَكُلَّمَا كَانَتِ اللَّذَّةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ، كَانَ التَّأَسُّفُ وَالتَّحَسُّرُ عِنْدَ فَوَاتِهَا أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَنَافِعُ الْآخِرَةِ مَصُونَةٌ عَنِ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا حِسِّيَّةٌ وَمَنَافِعَ الْآخِرَةِ عَقْلِيَّةٌ، وَالْحِسِّيَّةُ خَسِيسَةٌ، وَالْعَقْلِيَّةُ شَرِيفَةٌ، أَتَرَى أَنَّ انْتِفَاعَ الْحِمَارِ بِلَذَّةِ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ يُسَاوِي ابْتِهَاجَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ إِشْرَاقِهَا بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ الْمَعَاقِدُ السِّتَّةُ تُنَبِّهُكَ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ الْمَغْفِرَةُ مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا تَجْمَعُونَ أَصْلًا.
قُلْنَا: إِنَّ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحَلَالِ الَّذِي يُعَدُّ خَيْرًا، وَأَيْضًا هَذَا وَارِدٌ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ خَيْرَاتٌ، فَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَظُنُّونَهَا خَيْرَاتٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَغَّبَ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِالْحَشْرِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زَادَ فِي إِعْلَاءِ الدَّرَجَاتِ فَرَغَّبَهُمْ هَاهُنَا بِالْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ،
يُرْوَى أن عيسى بن مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مَرَّ بِأَقْوَامٍ نَحِفَتْ أَبْدَانُهُمْ وَاصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَرَأَى عَلَيْهِمْ آثَارَ الْعِبَادَةِ، فَقَالَ مَاذَا تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا: نَخْشَى عَذَابَ اللَّهِ، فَقَالَ: هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ لَا يُخَلِّصَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ فَرَأَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْآثَارَ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا:
نَطْلُبُ الْجَنَّةَ وَالرَّحْمَةَ، فَقَالَ: هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَمْنَحَكُمْ رَحْمَتَهُ ثُمَّ مَرَّ بِقَوْمٍ ثَالِثٍ وَرَأَى آثَارَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: نَعْبُدُهُ لِأَنَّهُ إِلَهُنَا، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ لَا لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الْعَبِيدُ الْمُخْلِصُونَ وَالْمُتَعَبِّدُونَ الْمُحِقُّونَ،
فَانْظُرْ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُهُ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، ثُمَّ قَالَ وَرَحْمَةٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُهُ لِطَلَبِ ثَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي خَاتِمَةِ الْآيَةِ: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِمُجَرَّدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَبْعَدُ النِّهَايَاتِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا شَرَّفَ الْمَلَائِكَةَ قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ:
١٩] وَقَالَ لِلْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: ٥٥] فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ فِي طَاعَتِهِ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِ يَكُونُ حَشْرُهُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتِئْنَاسُهُمْ بِكَرَمِهِ، وَتَمَتُّعُهُمْ بِشُرُوقِ نُورِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَهَذَا مَقَامٌ فِيهِ إِطْنَابٌ، وَالْمُسْتَبْصِرُ يُرْشِدُهُ الْقَدْرُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ.
وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ: كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ وَاحْتَرَزْتُمْ عَنِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ بَقِيتُمْ أَيَّامًا قَلِيلَةً فِي الدُّنْيَا مَعَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ الْخَسِيسَةِ، ثُمَّ تَتْرُكُونَهَا لَا مَحَالَةَ، فَتَكُونُ لَذَّاتُهَا لِغَيْرِكُمْ وَتَبِعَاتُهَا عَلَيْكُمْ، أَمَّا لَوْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، وَبَذَلْتُمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ لِلْمَوْلَى يَكُونُ حَشْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، وَوُقُوفُكُمْ عَلَى عَتَبَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَتَلَذُّذُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ وَالْمَنْزِلَتَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ دَقَائِقَ: أَحُدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ بَلْ قَالَ: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ، وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، مَعْنَاهُ إِلَى اللَّهِ يُحْشَرُ الْعَالَمُونَ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاكِمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إِلَّا هُوَ، قَالَ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: ١٦] وَقَالَ تَعَالَى:
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ: ١٩] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ هَذَا الِاسْمَ، وَهَذَا الِاسْمُ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ دَالٌّ/ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ وَكَمَالِ الْقَهْرِ، فَهُوَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْوَعْدِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى كَمَالِ الْقَهْرِ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ. وَثَالِثُهَا: إِدْخَالُ لَامِ التَّأْكِيدِ فِي اسْمِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ: لَإِلَى اللَّهِ وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ