أَمْرَانِ: اعْتِبَارُ حَالِ الْقَائِلِ، وَاعْتِبَارُ حَالِ الْفَاعِلِ، أَمَّا اعْتِبَارُ حَالِ الْقَائِلِ فَلِأَنَّ جَوَاهِرَ النُّفُوسِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ، كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» وَقَالَ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ»
وَكَمَا أَنَّهَا فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ تَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ الْبَلَادَةِ وَالْمَهَانَةِ وَالنَّذَالَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَيْهَا وَاسْتِيلَاءِ حُبِّ الْمَالِ وَاللَّذَّاتِ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْكَمَالِ قَدْ تَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَالَةِ، أَمَّا فِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فَيَكُونُ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّورِ: ٣٥] وَقَوْلِهِ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النِّسَاءِ: ١١٣] وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، فَكَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ كَأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَا تَنْقَادُ لِلشَّهْوَةِ وَلَا تَمِيلُ لِدَوَاعِي الْغَضَبِ، وَلَا تَتَأَثَّرُ مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِنَّ مَنْ تَأَثَّرَ عَنْ شَيْءٍ كَانَ الْمُتَأَثِّرُ أَضْعَفَ مِنَ الْمُؤَثِّرِ، فَالنَّفْسُ إِذَا مَالَتْ إِلَى هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ/ كَانَتْ رُوحَانِيَّاتُهَا أَضْعَفَ مِنَ الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَإِذَا لَمْ تَمِلْ إِلَيْهَا وَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهَا كَانَتْ رُوحَانِيَّاتُهَا مُسْتَعْلِيَةً عَلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَهَذِهِ الْخَوَاصُّ نَظَرِيَّةٌ، وَكَانَتْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالْكَمَالِ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ حَالِ الْفَاعِلِ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ»
فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَوَادِثَ الْأَرْضِيَّةَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَسْبَابِ الْإِلَهِيَّةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ، فَلَا جَرَمَ إِذَا فَاتَهُ مَطْلُوبٌ لَمْ يَغْضَبْ، وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَحْبُوبٌ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، لِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الرُّوحَانِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، فَلَا يُنَازِعُ أَحَدًا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ مِنْ لَذَّاتِهَا وَطَيِّبَاتِهَا، وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بِسَبَبِ فَوْتِ شَيْءٍ مِنْ مَطَالِبِهَا، وَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، طَيِّبَ الْعِشْرَةِ مَعَ الْخَلْقِ، وَلَمَّا كَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِحُسْنِ الْخُلُقِ، لَا جَرَمَ كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ حُسْنَ خُلُقِهِ مَعَ الْخَلْقِ، إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَقُولُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ، فَقَدْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ، فَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مُشْتَرِكًا فِيهِ بَيْنَ أَصْفَى الْأَصْفِيَاءِ، وَبَيْنَ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ لَمْ يَكُنِ اخْتِصَاصُ بَعْضِهِمْ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَمَالِ الطَّرِيقَةِ مُسْتَفَادًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَكَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَعْلِيلُ حُسْنِ خُلُقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ بَاطِلًا، وَلَمَّا كَانَ هَذَا بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَبِقَدْرِهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ هَذَا عَلَى زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا مِنَ الْأَلْطَافِ، فَقَدْ فَعَلَهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَالَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمُكَلَّفُ بِنَاءً عَلَى طَاعَتِهِ مِنْ مَزِيدِ الْأَلْطَافِ، فَذَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا اكْتَسَبَهُ مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ الطَّاعَةَ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْمَزِيدَ مِنَ اللُّطْفِ، وَوَجَبَ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلِ امْتَنَعَ إِيصَالُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ: عَمَّا قَلِيلٍ وجُنْدٌ ما هُنالِكَ [ص: ١١] فَبِما نَقْضِهِمْ [النساء: ١٥٥، المائدة: ١٣] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ [نوح: ٢٥] قَالُوا: وَالْعَرَبُ قَدْ تَزِيدُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يُوسُفَ: ٩٦] أَرَادَ فَلَمَّا جَاءَ، فَأَكَّدَ بِأَنْ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: دُخُولُ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ الضَّائِعِ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ غَيْرُ جَائِرٍ، وَهَاهُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) اسْتِفْهَامًا لِلتَّعَجُّبِ تَقْدِيرُهُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِنَايَتَهُمْ لَمَّا كَانَتْ عَظِيمَةً/ ثُمَّ إِنَّهُ مَا أَظْهَرَ أَلْبَتَّةَ، تَغْلِيظًا فِي الْقَوْلِ، وَلَا خُشُونَةً فِي الْكَلَامِ،