[١٤٥] ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ [آل عمران: ١٤٥] قَالَ الْأَخْفَشُ: اللَّامُ فِي (لِنَفْسٍ) منقولة من تموت تقديره: وما كان نَفْسٌ لِتَمُوتَ، ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٤٥] بقضائه وَقَدَرِهِ، وَقِيلَ: بِعِلْمِهِ، وَقِيلَ: بِأَمْرِهِ، ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ [آل عمران: ١٤٥] أَيْ: كَتَبَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلًا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِهِ وتأخيره، ونصب كتابا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: كَتَبَ كِتَابًا، ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٤٥] يَعْنِي: مَنْ يُرِدْ بِطَاعَتِهِ الدُّنْيَا وَيَعْمَلْ لَهَا نُؤْتِهِ مِنْهَا مَا يَكُونُ جَزَاءً لِعَمَلِهِ، يُرِيدُ نُؤْتِهِ منها ما يشاء مما قَدَّرْنَاهُ لَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٨] نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَزَ يَوْمَ أُحُدٍ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ، ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٤٥] أَيْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ الْآخِرَةَ، قِيلَ: أَرَادَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ حَتَّى قتلوا، ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٥] أي المؤمنين المطيعين.
[١٤٦] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٤٦] معناه: وَكَمْ، وَهِيَ كَافُ التَّشْبِيهِ ضُمَّتْ إِلَى أَيٍّ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَلَمْ يَقَعْ التنوين صُورَةٌ فِي الْخَطِّ إِلَّا فِي هذا الحرف خاصة، (قَاتَلَ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ بِضَمِّ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (قَاتَلَ) فَمَنْ قَرَأَ (قَاتَلَ) فَلِقَوْلِهِ: (فَمَا وَهَنُوا) وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَهِنُوا بَعْدَمَا قُتِلُوا، لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَا سَمِعْنَا أَنَّ نَبِيًّا قُتِلَ فِي الْقِتَالِ، وَلِأَنَّ (قَاتَلَ) أَعَمُّ، قَالَ أبو عبيدة: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ، وَإِذَا حَمِدَ مَنْ قَتَلَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَكَانَ (قَاتَلَ) أَعَمُّ، وَمَنْ قَرَأَ (قُتِلَ) فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ (قُتِلَ)، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ: وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، كَمَا يُقَالُ: قُتِلَ فَلَانٌ مَعَهُ جَيْشٌ كَثِيرٌ، أَيْ: وَمَعَهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ نَالَ النَّبِيَّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّبِّيِّينَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ: بَعْضَ مَنْ مَعَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ قَتَلْنَا بَنِي فُلَانٍ، وَإِنَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَيَكُونُ قوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ [آل عمران: ١٤٦] رَاجِعًا إِلَى الْبَاقِينَ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ لِلرِّبِّيِّينَ لَا غَيْرَ، وَقَوْلُهُ: (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الرِّبِّيُّونَ الْأُلُوفُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ: عَشْرَةُ آلَافٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ: أَلْفٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ وَقِيلَ: هُمُ الْأَتْبَاعُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ والربيون الولاة والرعية، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الرَّبَّ، (فَمَا وَهَنُوا) أي: فما جبنوا، ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا﴾ [آل عمران: ١٤٦] عَنِ الْجِهَادِ بِمَا نَالَهُمْ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ، وَقَتْلِ الْأَصْحَابِ. ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ [آل عمران: ١٤٦] قَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَا اسْتَسْلَمُوا وَمَا خَضَعُوا لِعَدُوِّهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَمَا ذلوا، وقال عَطَاءٌ: وَمَا تَضَرَّعُوا، وَقَالَ أَبُو العالية: وما جبنوا ولكن صَبَرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِمْ وَجِهَادِ عَدُوِّهِمْ، ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٦]
[١٤٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٧] نُصِبَ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَالِاسْمُ فِي أَنْ قَالُوا، وَمَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ قَتْلِ نَبِيِّهِمْ، ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ [آل عمران: ١٤٧] أَيِ: الصَّغَائِرَ، ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ [آل عمران: ١٤٧] أي: الكبائر، ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [آل عمران: ١٤٧] كَيْ لَا تَزُولَ، ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٧] فيقول: فَهَلَّا فَعَلْتُمْ وَقُلْتُمْ مِثْلَ ذَلِكَ يا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
[١٤٨] ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ [آل عمران: ١٤٨] النُّصْرَةَ وَالْغَنِيمَةَ، ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤٨] أي الْأَجْرَ وَالْجَنَّةَ، ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٨]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ] كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ....
[١٤٩] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [آل عمران: ١٤٩] يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ: ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَادْخُلُوا فِي دينهم،