دِيَارَهُمْ، وَكَانَ هَذَا بِعَيْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَنْهَى وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ لَمْ يُهَاجِرُوا وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ: (فَمَا لَكُمْ) يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ (فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أَيْ: صِرْتُمْ فِيهِمْ فِئَتَيْنِ أَيْ: فرقتين ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ [النساء: ٨٨] أَيْ: نكَّسهم وردَّهم إِلَى الْكُفْرِ ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ [النساء: ٨٨] بِأَعْمَالِهِمْ غَيْرِ الزَّاكِيَةِ ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا﴾ [النساء: ٨٨] أي: ترشدوا ﴿مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [النساء: ٨٨] وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَتَقُولُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُهْتَدُونَ وَقَدْ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ [النساء: ٨٨] أي: وكما كفروا يضلل اللَّهُ عَنِ الْهُدَى، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٨٨] أي: طريقا إلى الحق.
[٨٩] قوله تعالى: ﴿وَدُّوا﴾ [النساء: ٨٩] تمنَّوا، يَعْنِي أُولَئِكَ الَّذِينَ رَجَعُوا عَنِ الدِّينِ تَمَنَّوْا ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: ٨٩] فِي الْكُفْرِ، وَقَوْلُهُ (فَتَكُونُونَ) لَمْ يُرَدْ بِهِ جَوَابُ التَّمَنِّي لِأَنَّ جَوَابَ التَّمَنِّي بِالْفَاءِ مَنْصُوبٌ، إِنَّمَا أَرَادَ النَّسَقَ، أَيْ: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ وَوَدُّوا لَوْ تَكُونُونَ سَوَاءً، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [الْقَلَمِ: ٩] أَيْ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ وَوَدُّوا لَوْ تُدْهِنُونَ، ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [النساء: ٨٩] منع عن مُوَالَاتِهِمْ، ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٨٩] مَعَكُمْ، قَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ هِجْرَةٌ أُخْرَى وَالْهِجْرَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: هِجْرَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ [الْحَشْرِ: ٨] وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النِّسَاءِ: ١٠٠] وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْآيَاتِ، وَهِجْرَةُ المؤمنين: وَهِيَ الْخُرُوجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صابرين محتسبين، كما حكي هاهنا، وفي هذه الآية منع موالاة المؤمنين من موالاة المنافقين حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وهجرة سائر المؤمنين ما نهى الله عنه، وَهِيَ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (١). قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ [النساء: ٨٩] أَعْرَضُوا عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْهِجْرَةِ، ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ [النساء: ٨٩] أَيْ خُذُوهُمْ أُسَارَى، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْأَسِيرِ أَخِيذٌ، ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [النساء: ٨٩] فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: ٨٩] ثُمَّ اسْتَثْنَى طَائِفَةً مِنْهُمْ فَقَالَ:
[٩٠] ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾ [النساء: ٩٠] وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْقَتْلِ لَا إِلَى الْمُوَالَاةِ، لِأَنَّ مُوَالَاةَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ، وَمَعْنَى (يَصِلُونَ) أَيْ: يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمْ وَيَتَّصِلُونَ بِهِمْ وَيَدْخُلُونَ فِيهِمْ بالحِلْف وَالْجِوَارِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما يريدون ويلجأون إِلَى قَوْمٍ، ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ [النساء: ٩٠] أَيْ: عَهْدٌ، وَهُمُ الْأَسْلَمِيُّونَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى مكة على ألا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هِلَالٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَلَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلَ مَا لِهِلَالٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ بَنِي بَكْرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ كَانُوا فِي الصُّلْحِ وَالْهُدْنَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ خُزَاعَةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ﴾ [النساء: ٩٠] أي: يتصلون بقوم جاؤوكم، ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: ٩٠] أَيْ: ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ، قَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ (حَصِرَةً) مَنْصُوبَةً مُنَوَّنَةً أَيْ: ضَيِّقَةً صُدُورُهُمْ، يَعْنِي الْقَوْمَ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ وَهُمْ بَنُو مُدْلَجٍ، كَانُوا عاهدوا قريشا ألا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا ألا يُقَاتِلُوهُمْ، حَصِرَتْ: ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ، ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ [النساء: ٩٠] أَيْ: عَنْ قِتَالِكُمْ لِلْعَهْدِ الَّذِي بينكم، ﴿أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ [النساء: ٩٠] يَعْنِي: مَنْ أَمِنَ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ، يَعْنِي قُرَيْشًا قَدْ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ لِذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، أَيْ: حصرت صدورهم عن قتالهم وَالْقِتَالِ مَعَكُمْ، وَهُمْ قَوْمُ هِلَالٍ الأَسْلَمِيُّونَ وَبَنُو بَكْرٍ، نَهَى اللَّهُ
_________
(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان / ٤.