في أصلاب آبائكم، ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] فِي الْأَرْحَامِ وَالدُّنْيَا، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ، ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] للبعث، ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] أَيْ: تُرَدُّونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيكُمْ بأعمالكم.
[٢٩] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] لِكَيْ تَعْتَبِرُوا وَتَسْتَدِلُّوا، وَقِيلَ: لِكَيْ تَنْتَفِعُوا، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ: أَيِ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٩] خَلَقَهُنَّ مُسْتَوَيَاتٍ لَا فُطُورَ فِيهَا ولا صدوع، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩]
[٣٠] ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ [البقرة: ٣٠] أَيْ: وَقَالَ رَبُّكَ وَإِذْ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ رَبُّكَ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فهذا سبيله، إذ وَإِذَا: حَرْفَا تَوْقِيتٍ إِلَّا أَنَّ إِذْ لِلْمَاضِي وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ يوضع أحدهما موضع الآخر. ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] جمع ملك، وأراد به الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] أي: بدلا منكم، والمراد بالخليفة ههنا آدم ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠] بالمعاصي، ﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] بغير حق ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ [البقرة: ٣٠] قَالَ الْحَسَنُ: نَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده هو صَلَاةُ الْخَلْقِ وَصَلَاةُ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهِمَا سوى الآدميين ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] أَيْ: نُثْنِي عَلَيْكَ بِالْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ عما لا يليق بعظمتك وجلالك، وَقِيلَ: وَنُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا لِطَاعَتِكَ، وَقِيلَ: وَنُنَزِّهُكَ، وَاللَّامُ: صِلَةٌ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ وَالْعُجْبِ بِالْعَمَلِ بَلْ على سبيل التعجب وطلب الْحِكْمَةِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] من الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُطِيعُنِي ويعبدني من الأنبياء والأولياء والصلحاء، وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَعْصِينِي وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُذْنِبُونَ وَأَنَا أغفر لهم.
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ] عَلَى الْمَلَائِكَةِ
[٣١] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١] سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ آدم اللون، فلما خلقه الله عز وجل عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا وإن كان غيرنا أكرم عليه فَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ لِأَنَّا خُلِقْنَا قَبْلَهُ وَرَأَيْنَا مَا لَمْ يَرَهُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بالعلم، قال ابن عباس: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَصْعَةِ وَالْقُصَيْعَةِ، وَقِيلَ: اسْمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ، وقيل: صنعة كل شيء ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣١] إنما قال: ﴿عَرَضَهُمْ﴾ [البقرة: ٣١] وَلَمْ يَقُلْ عَرَضَهَا لِأَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ إذا جمعت مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ يُكَنَّى عَنْهَا بِلَفْظِ مَنْ يَعْقِلُ، كَمَا يُكَنَّى عَنِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِلَفْظِ الذُّكُورِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ الْحَيَوَانَ وَالْجَمَادَ ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ الشُّخُوصَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الشُّخُوصِ، فَلِذَلِكَ قَالَ عَرَضَهُمْ ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي﴾ [البقرة: ٣١] أَخْبَرُونِي ﴿بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١] أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا وَكُنْتُمْ أَفْضَلَ وَأَعْلَمَ مِنْهُ.
فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِقْرَارًا بِالْعَجْزِ:
[٣٢] ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ [البقرة: ٣٢] تَنْزِيهًا لَكَ، ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢] معناه: إنك أَجَلُّ مِنْ أَنْ نُحِيطَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِكَ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] بخلقك ﴿الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] فِي أَمْرِكَ، وَالْحَكِيمُ لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَاكِمُ وَهُوَ الْقَاضِي الْعَدْلُ، وَالثَّانِي الْمُحْكِمُ لِلْأَمْرِ كَيْ لَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَأَصْلُ الْحِكْمَةِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ فَهِيَ تَمْنَعُ صاحبها من الباطل.
فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ.
[٣٣] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣] أَخْبِرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَسَمَّى آدَمُ كُلَّ شيء وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَ، ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ﴾ [البقرة: ٣٣]


الصفحة التالية
Icon