أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْقُبُ أَحَدُهُمُ الْآخَرَ وَيَخْلُفُهُ، فَكَأَنَّهُ يَطْلُبُهُ. ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ﴾ [الأعراف: ٥٤] أَيْ: خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسَخَّرَاتٍ، أَيْ: مُذَلَّلَاتٍ ﴿بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] لَهُ الْخَلْقُ لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَلَهُ الْأَمْرُ يَأْمُرُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ كَفَرَ. ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٥٤] أَيْ: تَعَالَى اللَّهُ وَتَعَظَّمَ. وَقِيلَ: ارْتَفَعَ. وَالْمُبَارَكُ الْمُرْتَفِعُ. وَقِيلَ: تَبَارَكَ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ. أَيْ: الْبَرَكَةُ تُكْتَسَبُ وَتُنَالُ بِذِكْرِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَجِيءُ الْبَرَكَةُ مِنْ قِبَلِهِ وَقِيلَ. تَبَارَكَ تَقَدَّسَ. وَالْقُدْسُ الطَّهَارَةُ. وَقِيلَ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَيْ بِاسْمِهِ يُتَبَرَّكُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ. مَعْنَى هَذِهِ الصِّفَةِ ثَبَتَ وَدَامَ بِمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَأَصِلُ الْبَرَكَةِ الثُّبُوتُ. وَيُقَالُ: تَبَارَكَ اللَّهُ، وَلَا يُقَالُ. مُتَبَارَكٌ وَلَا مُبَارَكٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ التوقيف. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤]
[٥٥] ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ [الأعراف: ٥٥] تذللا واستكانة، ﴿وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥] أَيْ: سِرًّا. قَالَ الْحَسَنُ: بَيْنَ دَعْوَةِ السِّرِّ وَدَعْوَةِ الْعَلَانِيَةِ سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، وَإِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بينهم وبين ربهم، ذلك أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥] وَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا وَرَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مَرْيَمُ: ٣] ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: ٥٥] قِيلَ: الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: هُمُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ منازل الأنبياء عليهم السلام وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الِاعْتِدَاءَ بِالْجَهْرِ وَالصِّيَاحُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مِنْ الِاعْتِدَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ بِالدُّعَاءِ وَالصِّيَاحُ. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا» (١). وَقَالَ عَطِيَّةُ: هُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا لَا يَحِلُّ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَخْزِهِمُ اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ.
[٥٦] ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: ٥٦] أَيْ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ فَيُمْسِكُ اللَّهُ الْمَطَرَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ بِمَعَاصِيكُمْ. فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: ٥٦] أَيْ: بَعْدَ إِصْلَاحِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِالْمَطَرِ وَالْخِصْبِ. ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: ٥٦] أَيْ: خَوْفًا مِنْهُ وَمِنْ عَذَابِهِ وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَثَوَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: خَوْفَ العدل وطمع الفضل. ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: ٥٦] وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ، قَالَ سَعِيدُ بن جبير: الرحمة ها هنا الثَّوَابُ فَرَجَعَ النَّعْتُ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ [النِّسَاءُ: ٨] وَلَمْ يُقِلْ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمِيرَاثَ وَالْمَالَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ يَسْتَوِي فِيهِمَا فِي اللُّغَةِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: الْقَرِيبُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقُرْبِ وَبِمَعْنَى الْمَسَافَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذِهِ امْرَأَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْكَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْكَ إِذَا كانت بمعنى المسافة.
[٥٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا﴾ [الأعراف: ٥٧] قَرَأَ عَاصِمٌ (بُشِّرَا) بِالْبَاءِ وَضَمَّهَا وسكون الشين ها هنا وَفِي الْفُرْقَانِ وَسُورَةِ النَّمْلِ، وَيَعْنِي: أَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الرُّومُ: ٤٦] وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نَشَرَا بِالنُّونِ وَفَتَحَهَا، وَهِيَ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ اللَّيِّنَةُ، قَالَ الله تعالى:
_________
(١) رواه البخاري في الجهاد ٧ / ٤٧٠ ومسلم في الذكر رقم (٢٧٠٤) ٤ / ٢٠٧٦ والمصنف في شرح السنة ٥ / ٦٦.


الصفحة التالية
Icon