أَنْ يُوكَلَ عِلْمُهُ إِلَيْهِ. ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤] أَيْ لَا تَعْلَمُونَ تَسْبِيحَ مَا عَدَا مَنْ يُسَبِّحُ بِلُغَاتِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ، ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: ٤٤]
[٤٥] ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥] يَحْجُبُ قُلُوبَهُمْ عَنْ فَهْمِهِ وَالِانْتِفَاعِ به. قال قتادة: وهو الْأَكِنَّةُ، وَالْمَسْتُورُ بِمَعْنَى السَّاتِرِ كَقَوْلِهِ: ﴿كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٦١] مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَقِيلَ: مَسْتُورٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فَلَا يَرَوْنَهُ. وَفَسَّرَهُ بعضهم بالحجاب عن الأعين. الظاهر كَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١] جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَمَعَهَا حَجَرٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَرَهُ، فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: أَيْنَ صَاحِبُكَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ هَجَانِي؟ فقال: والله ما ينطق عن الهوى ولا يَنْطِقُ بِالشِّعْرِ وَلَا يَقُولُهُ، فَرَجَعَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ كُنْتُ جِئْتُ بهذا الحجر لأرضخ برأسه، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رَأَتْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا لَمْ يَزَلْ مَلَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا يَسْتُرُنِي (١).
[٤٦] ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ [الإسراء: ٤٦] أغطية، ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ [الإسراء: ٤٦] كَرَاهِيَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ. وَقِيلَ: لِئَلَّا يفقهوه، ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الإسراء: ٤٦] ثِقْلًا لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ. ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ﴾ [الإسراء: ٤٦] يَعْنِي إِذَا قُلْتَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنْتَ تَتْلُوهُ، ﴿وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء: ٤٦] جَمْعُ نَافِرٍ مِثْلِ قَاعِدٍ وَقُعُودٍ وَجَالِسٍ وَجُلُوسٍ، أَيْ نَافِرِينَ.
[٤٧] ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ [الإسراء: ٤٧] قِيلَ: بِهِ صِلَةٌ أَيْ: يَطْلُبُونَ سمعه، ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٤٧] وَأَنْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: ٤٧] يتناجون في أمرك. وقيل: ذو نجوى، فبعضهم يقول: هو مَجْنُونٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَاهِنٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: سَاحِرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: شَاعِرٌ. ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾ [الإسراء: ٤٧] يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَأَصْحَابَهُ، ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: ٤٧] مَطْبُوبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَخْدُوعًا. وَقِيلَ: مَصْرُوفًا عَنِ الْحَقِّ. يُقَالُ: مَا سَحَرَكَ عَنْ كَذَا؟ أَيْ مَا صرفك عنه؟ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ رَجُلًا لَهُ سَحْرٌ، وَالسَّحْرُ: الرِّئَةُ أَيْ: إنه بشر مثلكم تغذى معللا بالطعام والشراب يأكل ويشرب.
[٤٨] ﴿انْظُرْ﴾ [الإسراء: ٤٨] يَا مُحَمَّدُ، ﴿كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ﴾ [الإسراء: ٤٨] الْأَشْبَاهَ، قَالُوا: شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ وَكَاهِنٌ ومجنون، ﴿فَضَلُّوا﴾ [الإسراء: ٤٨] فَحَارُوا وَحَادُوا، ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٨] أَيْ: وُصُولًا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ.
[٤٩] ﴿وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا﴾ [الإسراء: ٤٩] بعد الموت. قَالَ مُجَاهِدٌ: تُرَابًا. وَقِيلَ: حُطَامًا. والرفات: كل ما يكسر ويبلى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَالْفُتَاتِ وَالْحُطَامِ. ﴿أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [الإسراء: ٤٩]
[قوله تعالى قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا.....]
[٥٠] ﴿قُلْ﴾ [الإسراء: ٥٠] لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ ﴿كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا﴾ [الإسراء: ٥٠] فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَمْرِ إِلْزَامٍ بَلْ هُوَ أَمْرُ تَعْجِيزٍ، أَيِ: اسْتَشْعِرُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنَّكُمْ حِجَارَةٌ أَوْ حَدِيدٌ فِي الْقُوَّةِ.
[٥١] ﴿أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ [الإسراء: ٥١] قِيلَ: السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ الْمَوْتُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ ابْنِ آدَمَ شَيْءٌ أَكْبَرُ مِنَ الموت، أي: ولو كُنْتُمُ الْمَوْتَ بِعَيْنِهِ لَأُمِيتَنَّكُمْ وَلَأَبْعَثَنَّكُمْ، ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا﴾ [الإسراء: ٥١] مَنْ يَبْعَثُنَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ﴾ [الإسراء: ٥١] خلقكم، ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٥١] وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِنْشَاءِ قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ، ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ﴾ [الإسراء: ٥١] أَيْ: يُحَرِّكُونَهَا إِذَا قُلْتَ لَهُمْ ذَلِكَ مُسْتَهْزِئِينَ بِهَا، ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ﴾ [الإسراء: ٥١] أَيِ: الْبَعْثُ وَالْقِيَامَةُ، ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ [الإسراء: ٥١] أَيْ: هُوَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الْأَحْزَابِ: ٦٣]
[٥٢] ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٢] مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٥٢] قال ابن عباس:
_________
(١) أخرجه أبو يعلى وابن أبي حاتم. انظر تفسير ابن كثير ٣ / ٤٤ و ٤ / ٥٦٥ ومجمع الزوائد.