تَسْخِيرِ الرِّيحِ وَغَيْرِهِ يَدْعُوهُ إِلَى الخضوع لربه عَزَّ وَجَلَّ.
[٨٢] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الأنبياء: ٨٢] يعني وَسَخَّرْنَا لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، ﴿مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٢] يعني يَدْخُلُونَ تَحْتَ الْمَاءِ فَيُخْرِجُونَ لَهُ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ الْجَوَاهِرَ، ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] يعني دُونَ الْغَوْصِ وَهُوَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ [سَبَأٍ: ١٣] الْآيَةَ. ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٢] حَتَّى لَا يَخْرُجُوا مِنْ أَمْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ حَفِظْنَاهُمْ مِنْ أن يفسدوا ما عملوا.
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ] وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.....
[٨٣] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ [الأنبياء: ٨٣] يعني دعا ربه، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ نِدَائِهِ وَالسَّبَبِ الَّذِي قَالَ لِأَجْلِهِ: إِنِّي مَسَّنِي الضر وفي مدة بلائه، فروى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ أَنَّ أَيُّوبَ لَبِثَ فِي بَلَائِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزِدْ يَوْمًا.
وَقَالَ كعب: كان أيوب في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبع أيام. وقار الْحَسَنُ: مَكَثَ أَيُّوبُ مَطْرُوحًا عَلَى كُنَاسَةٍ فِي مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا تَخْتَلِفُ فِيهِ الدَّوَابُّ لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ غَيْرَ امرأته رَحْمَةَ صَبَرَتْ مَعَهُ بِصِدْقٍ وَتَأْتِيهِ بِطَعَامٍ وَتَحْمَدُ اللَّهَ مَعَهُ إِذَا حمد، وأيوب مع ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ عَنْ ذِكْرِ الله والصبر على ما ابتلاه به فَلَمَّا نَظَرَ أَيُّوبُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا صَدِيقٌ خر ساجدا لله وَقَالَ: رَبِّ ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣] فَقِيلَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ دَائِهِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ إِلَّا سَقَطَ وَعَادَ إِلَيْهِ شَبَابُهُ وَجَمَالُهُ أَحْسَنُ مَا كان. ثم ركض برجله ركضة أخرى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ فِي جَوْفِهِ دَاءٌ إِلَّا خَرَجَ فَقَامَ صَحِيحًا وَكُسِيَ حُلَّةً قَالَ: فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ فَلَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ لَهُ مَنْ أَهْلٍ وَمَالٍ إِلَّا وَقَدْ ضاعفه الله فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ صَابِرًا وَقَدْ أَظْهَرَ الشَّكْوَى وَالْجَزَعَ، بقوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: ٨٣] و ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ﴾ [ص: ٤١] قِيلَ: لَيْسَ هَذَا شِكَايَةً إِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٤] عَلَى أَنَّ الْجَزَعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ فَأَمَّا الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَكُونُ جَزَعًا وَلَا تَرْكَ صبرا كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يُوسُفَ: ٨٦] قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَكَذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَ الشَّكْوَى إِلَى النَّاسِ وَهُوَ رَاضٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ جَزَعًا كَمَا رُوِيَ «أَنَّ جِبْرِيلَ دَخْلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: أَجِدُنِي مَغْمُومًا وَأَجِدُنِي مَكْرُوبًا» (١). وَقَالَ لعائشة حين قالت وارأساه: «قال: بل أنا وارأساه» (٢).
[٨٤] قوله: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٤] وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: رَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ بِأَعْيَانِهِمْ أحياهم الله وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ: قَالَ الْحَسَنُ: آتَاهُ اللَّهُ الْمِثْلَ مِنْ نَسْلِ مَالِهِ الَّذِي رد اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَهْلَهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ما روي عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ إِلَى الْمَرْأَةِ شَبَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ ستة وعشرين ذكرا. قَالَ عِكْرِمَةُ: قِيلَ لِأَيُّوبَ: إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ، وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ فِي الْآخِرَةِ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَرَادَ بِالْأَهْلِ الْأَوْلَادَ، ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الأنبياء: ٨٤] أَيْ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا، ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٤] أي عظة وعبرة لهم.
_________
(١) قطعة من حديث طويل أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٣ / ١٣٩ قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ وهو ذاهب الحديث.
(٢) أخرجه البخاري في المرضى ١٠ / ١٢٣.


الصفحة التالية
Icon