يَحُطُّ عَنْهُ الثُّلُثَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَيْسَ لَهُ حَدٌّ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ مَا شَاءَ، وهو قول الشافعي وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، وَالْوُجُوبُ أَظْهَرُ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَآتَوْهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ أَيْ سَهْمَهُمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ حَثٌّ لجميع الناس على معونتهم، قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور: ٣٣] الْآيَةُ، نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ الْمُنَافِقِ كَانَتْ لَهُ جَارِيَتَانِ مُعَاذَةُ وَمُسَيْكَةُ، وَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَا بِالضَّرِيبَةِ يَأْخُذُهَا مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُؤَجِّرُونَ إِمَاءَهُمْ، فَلَمَّا جاء الإسلام أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَتَا إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ) إِمَاءَكُمْ (عَلَى الْبِغَاءِ) أَيْ الزِّنَا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) أَيْ إِذَا أردن، وليسر مَعْنَاهُ الشَّرْطُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُنَّ عَلَى الزِّنَا وَإِنْ لَمْ يُرِدْنَ تَحَصُّنًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٩] أَيْ إِذَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: شَرَطَ إِرَادَةَ التَّحَصُّنِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، فَإِذَا لَمْ تُرِدِ التَّحَصُّنَ بَغَتْ طَوْعًا، وَالتَّحَصُّنُ التَّعَفُّفُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهَا: وَأَنْكَحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ. ﴿لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [النور: ٣٣] أَيْ: لِتَطْلُبُوا مِنْ أَمْوَالِ الدُّنْيَا يُرِيدُ مِنْ كَسْبِهِنَّ وَبَيْعِ أَوْلَادِهِنَّ، ﴿وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٣٣] يَعْنِي لِلْمُكْرَهَاتِ، وَالْوِزْرُ عَلَى الْمُكْرِهِ.
[٣٤] قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾ [النور: ٣٤] مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، ﴿وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [النور: ٣٤] أَيْ شَبَهًا مِنْ حَالِكُمْ بِحَالِهِمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، وَهَذَا تَخْوِيفٌ لَهُمْ أَنْ يَلْحَقَهُمْ مَا لَحِقَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [النور: ٣٤] لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ.
[٣٥] قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: ٣٥] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُمْ بِنُورِهِ إِلَى الْحَقِّ يَهْتَدُونَ وَبِهُدَاهُ مِنَ الضَّلَالَةِ يَنْجُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُقَالُ: نَوَّرَ السَّمَاءَ بِالْمَلَائِكَةِ وَنَوَّرَ الْأَرْضَ بِالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُدَبِّرُ الْأُمُورِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: مُزَيِّنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَزَيَّنَ الْأَرْضَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. ويقال: بالنبات والأشجار. قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ [النور: ٣٥] أَيْ مَثَلَ نُورِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ النُّورُ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ كَمَا قَالَ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَثَلُ نُورِهِ الَّذِي أَعْطَى الْمُؤْمِنَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنِ، أَيْ: مَثَلُ نُورِ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَكَانَ أُبَيٌّ يَقْرَأُ: (مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ) وَهُوَ عَبْدٌ جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَرَادَ بِالنُّورِ الْقُرْآنَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنُّورِ الطَّاعَةَ، سَمَّى طَاعَةَ اللَّهِ نُورًا وَأَضَافَ هَذِهِ الْأَنْوَارَ إِلَى نَفْسِهِ تَفْضِيلًا، ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور: ٣٥] وَهِيَ الْكُوَّةُ الَّتِي لَا مَنْفَذَ لَهَا فَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْفَذٌ فَهِيَ كُوَّةٌ. وَقِيلَ: الْمِشْكَاةُ حَبَشِيَّةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقِنْدِيلُ ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ [النور: ٣٥] أَيْ: سِرَاجٌ، أَصْلُهُ مِنَ الضَّوْءِ، وَمِنْهُ الصُّبْحُ، وَمَعْنَاهُ: كَمِصْبَاحٍ فِي مشكاة، ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ [النور: ٣٥] يَعْنِي الْقِنْدِيلَ، قَالَ الزَّجَّاجُ. إِنَّمَا ذَكَرَ الزُّجَاجَةَ لِأَنَّ النُّورَ وَضَوْءَ النَّارِ فِيهَا أَبْيَنُ مِنْ كُلِّ شيء، وضوء يَزِيدُ فِي الزُّجَاجِ، ثُمَّ وَصَفَ الزُّجَاجَةَ، فَقَالَ: ﴿الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ [النور: ٣٥] قرأ أبو عمر والكسائي (درئ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ الدَّالِ وَالْهَمْزَةِ، فَمَنْ كَسَرَ