الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِلٌّ، أَرَادَ: مَنَعْنَاهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَوَانِعَ، فَجَعَلَ الْأَغْلَالَ مَثَلًا لِذَلِكَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ إِنَّا حَبَسْنَاهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] مَعْنَاهُ لَا تُمْسِكْهَا عَنِ النَّفَقَةِ. ﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ [يس: ٨] وهي كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِأَنَّ الْغِلَّ يَجْمَعُ الْيَدَ إِلَى الْعُنُقِ، مَعْنَاهُ: إِنَّا جَعَلَنَا فِي أَيْدِيهِمْ وَأَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ، ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ [يس: ٨] المقمح الَّذِي رُفِعَ رَأْسُهُ وَغُضَّ بَصَرُهُ، يُقَالُ: بَعِيرٌ قَامِحٌ إِذَا رَوَى مِنَ الْمَاءِ فَأَقْمَحَ إِذَا رَفَعَ رأسه وغض بصره. قال الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَمَّا غُلَّتْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ رَفَعَتِ الْأَغْلَالُ أذقانهم ورءوسهم، فهم مرفوعوا الرءوس بِرَفْعِ الْأَغْلَالِ إِيَّاهَا.
[٩] ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ [يس: ٩] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ (سَدًّا) بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا، ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ [يس: ٩] فَأَعْمَيْنَاهُمْ مِنَ التَّغْشِيَةِ وَهِيَ التَّغْطِيَةُ، ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩] سَبِيلَ الْهُدَى.
[١٠] ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: ١٠]
[١١] ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: ١١] يَعْنِي إِنَّمَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يَعْنِي الْقُرْآنَ فَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: ١١] حَسَنٍ وَهُوَ الْجَنَّةُ.
[١٢] ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [يس: ١٢] عِنْدَ الْبَعْثِ، ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ [يس: ١٢] مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ﴿وَآثَارَهُمْ﴾ [يس: ١٢] أَيْ مَا سَنُّوا مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فله أجرها وأجر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» (١).
وَقَالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهَمْ) أَيْ: خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: شَكَتْ بَنُو سَلَمَةَ بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهَمْ) (٢). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ﴾ [يس: ١٢] حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ، ﴿فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ١٢] وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا] الْمُرْسَلُونَ...
[١٣] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ [يس: ١٣] يَعْنِي اذْكُرْ لَهُمْ شَبَهًا مِثْلَ حَالِهِمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَهِيَ أَنْطَاكِيَةُ، ﴿إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: ١٣] يَعْنِي رُسُلُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام.
_________
(١) أخرجه مسلم في الزكاة رقم (١٠١٧) ٢ / ٧٠٤ والمصنف في شرح السنة ٦ / ١٥٩.
(٢) أخرجه الترمذي في التفسير ٩ / ٩٤ وقال (حديث حسن غريب) وصححه الحاكم ٢ / ٤٢٨.


الصفحة التالية
Icon