فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ وَقَدْ أَعْمَيْنَا أَعْيُنَهُمْ؟ يعني: لو تشاء لَأَضْلَلْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ، فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ الطَّرِيقَ حِينَئِذٍ؟ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ لَوْ نَشَاءُ لَفَقَأْنَا أَعْيُنَ ضَلَالَتِهِمْ، فَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنْ غَيِّهِمْ، وَحَوَّلْنَا أَبْصَارَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، فَأَبْصَرُوا رُشْدَهُمْ، (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) وَلَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ؟
[٦٧] ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾ [يس: ٦٧] يعني مكانتهم، يُرِيدُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقِيلَ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ حِجَارَةً، وَهُمْ قُعُودٌ فِي مَنَازِلِهِمْ لَا أَرْوَاحَ لَهُمْ. ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٦٧] يعني إلى ما كانوا عليه على وَقِيلَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَهَابٍ وَلَا رُجُوعٍ.
[٦٨] ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ [يس: ٦٨] أَيْ نَرُدُّهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ شِبْهَ الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: نُنَكِّسُهُ فِي الْخَلْقِ أَيْ نُضْعِفُ جَوَارِحَهُ بَعْدَ قُوَّتِهَا وَنَرُدُّهَا إِلَى نُقْصَانِهَا بَعْدَ زِيَادَتِهَا. ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: ٦٨] فَيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى تَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ يَقْدِرُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
[٦٩] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس: ٦٩] قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا شَاعِرٌ، وَمَا يَقُولُهُ شِعْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أَيْ مَا يَتَسَهَّلُ لَهُ ذَلِكَ وَمَا كَانَ يَتَّزِنُ له بيت من الشعر، حَتَّى إِذَا تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ جرى على لسانه منكسرا، ﴿إِنْ هُوَ﴾ [يس: ٦٩] يعني ما القرآن، ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ [يس: ٦٩] موعظة، ﴿وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٦٩] فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ.
[٧٠] ﴿لِيُنْذِرَ﴾ [يس: ٧٠] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَيَعْقُوبُ (لِتُنْذِرَ) بِالتَّاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْقَافِ، وَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْأَحْقَافِ، أَيْ لِتُنْذِرَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ أَيْ لِيُنْذِرَ الْقُرْآنُ، ﴿مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ [يس: ٧٠] يَعْنِي مُؤْمِنًا حَيَّ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَدَبَّرُ وَلَا يَتَفَكَّرُ، ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ﴾ [يس: ٧٠] وَيَجِبُ حُجَّةُ الْعَذَابِ ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس: ٧٠]
[قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ] أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ...
[٧١] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ [يس: ٧١] تَوَلَّيْنَا خَلْقَهُ بِإِبْدَاعِنَا مِنْ غَيْرِ إِعَانَةِ أَحَدٍ، ﴿أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ [يس: ٧١] ضَابِطُونَ قَاهِرُونَ، أَيْ لَمْ يَخْلُقِ الْأَنْعَامَ وَحْشِيَّةً نَافِرَةً مَنْ بَنِي آدَمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ضَبْطِهَا بَلْ هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُمْ.
[٧٢] وَهِيَ قوله: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ [يس: ٧٢] سخرناها لهم، ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ [يس: ٧٢] أَيْ مَا يَرْكَبُونَ وَهِيَ الْإِبِلُ، ﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٧٢] مِنْ لُحْمَانِهَا.
[٧٣] ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ [يس: ٧٣] أي مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَنَسْلِهَا، ﴿وَمَشَارِبُ﴾ [يس: ٧٣] من ألبانها، ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ [يس: ٧٣] رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ.
[٧٤] ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [يس: ٧٤] يَعْنِي: لِتَمْنَعَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَطُّ.
[٧٥] ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾ [يس: ٧٥] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ عَلَى نَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٧٥] أَيْ الْكُفَّارُ جُنْدٌ لِلْأَصْنَامِ يَغْضَبُونَ لَهَا وَيُحْضِرُونَهَا فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ خَيْرًا وَلَا تَسْتَطِيعُ لَهُمْ نَصْرًا. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ يُؤْتَى بِكُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَهُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ كَأَنَّهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي النَّارِ.
[٧٦] ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ [يس: ٧٦] يَعْنِي قَوْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِكَ، ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ [يس: ٧٦] فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [يس: ٧٦] مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ مَا يُعْلِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْأَذَى.
[٧٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ [يس: ٧٧] جدل بالباطل، ﴿مُبِينٌ﴾ [يس: ٧٧] بَيِّنُ الْخُصُومَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يُخَاصِمُ، فَكَيْفَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ حَتَّى يَدَعَ


الصفحة التالية
Icon