أَوَّلُهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَخْطُبُ وَيَعِيبُ الْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ سَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اسْتِهْزَاءً مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ سُئِلَتْ فِيمَنْ سُئِلَ، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [محمد: ١٦] فلم يؤمنوا، ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦] فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
[١٧] ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ [محمد: ١٧] يعني المؤمنين، ﴿زَادَهُمْ﴾ [محمد: ١٧] ما قال الرسول، ﴿هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧] وَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَهُوَ التَّقْوَى، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَآتَاهُمْ ثَوَابَ تَقْوَاهُمْ.
[١٨] ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ [محمد: ١٨] أَمَارَاتُهَا وَعَلَامَاتُهَا وَاحِدُهَا شَرْطٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أشراط الساعة ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ [محمد: ١٨] فَمِنْ أَيْنَ لَهُمُ التَّذَكُّرُ وَالِاتِّعَاظُ وَالتَّوْبَةُ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، نَظِيرُهُ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الْفَجْرِ: ٢٣]
[١٩] ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: ١٩] قِيلَ: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فاثبتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: فَازْدَدْ عِلْمًا عَلَى عِلْمِكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ عُيَيْنَةَ. هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مَعْنَاهُ: إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَفْزَعَ عِنْدَ قِيَامِهَا إِلَّا إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ الْمَمَالِكَ تَبْطُلُ عِنْدَ قِيَامِهَا فَلَا مُلْكَ وَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ إِلَّا الله، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩] أُمر بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ له لتستن به أمته ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: ١٩] هَذَا إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَمَرَ نَبِيَّهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ يَسْتَغْفِرَ لِذُنُوبِهِمْ وَهُوَ الشَّفِيعُ الْمُجَابُ فِيهِمْ، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد: ١٩] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مُتَقَلَّبَكُمْ مُتَصَرَّفُكُمْ وَمُنْتَشَرُكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَثْوَاكُمْ مَصِيرُكُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ جَرِيرٍ: مُتَقَلَّبَكُمْ مُنْصَرَفُكُمْ لِأَشْغَالِكُمْ بِالنَّهَارِ وَمَثْوَاكُمْ مَأْوَاكُمْ إِلَى مَضَاجِعِكُمْ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُتَقَلَّبَكُمْ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ وَمَثْوَاكُمْ مَقَامُكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مُتَقَلَّبَكُمْ مِنْ ظَهْرٍ إِلَى بَطْنٍ، وَمَثْوَاكُمْ مَقَامُكُمْ فِي الْقُبُورِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ فَلَا يَخْفَى عليه شيء منها.
[قوله تعالى وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ]...
[٢٠] ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [محمد: ٢٠] حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، ﴿لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾ [محمد: ٢٠] تَأْمُرُنَا بِالْجِهَادِ، ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾ [محمد: ٢٠] قَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ سُورَةٍ ذُكِرَ فِيهَا الْجِهَادُ فَهِيَ مُحَكَّمَةٌ وَهِيَ أَشَدُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، ﴿رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [محمد: ٢٠] يعني المنافقين، ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ [محمد: ٢٠] شَزَرًا بِتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ، كَرَاهِيَةً مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ وَجُبْنًا عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، ﴿نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد: ٢٠] نظر الشَّاخِصُ بَصَرُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٠] وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي التَّهْدِيدِ أَوْلَى لَكَ أَيْ وَلِيَكَ وَقَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ.
[٢١] ثُمَّ قَالَ: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [محمد: ٢١] وَهَذَا ابْتِدَاءٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَمْثَلُ، أَيْ لَوْ أَطَاعُوا وَقَالُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا كَانَ أَمْثَلُ وَأَحْسَنُ. وَقِيلَ: مَجَازُهُ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ الْمُحْكَمَةِ: طَاعَةٌ، رَفَعَ عَلَى الْحِكَايَةِ أَيْ أَمْرُنَا طَاعَةٌ أَوْ مِنَّا طَاعَةٌ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ حَسَنٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ واللام في قولهم بِمَعْنَى الْبَاءِ، مَجَازُهُ: فَأَوْلَى بِهِمْ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ بِالْإِجَابَةِ، أَيْ لَوْ أَطَاعُوا كَانَتِ الطَّاعَةُ وَالْإِجَابَةُ أَوْلَى بِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ. ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾ [محمد: ٢١] أَيْ جَدَّ الْأَمْرُ وَلَزِمَ فَرْضُ الْقِتَالِ وَصَارَ الْأَمْرُ مَعْزُومًا، ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾ [محمد: ٢١] فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد: ٢١] وَقِيلَ: جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَإِذَا عَزَمَ