لِأَصْحَابِهِ حِكَايَةً عَنْ رُؤْيَاهُ، فَأَخْبَرَ الله عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مَعَ عِلْمِهِ بِدُخُولِهَا بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، تَأَدُّبًا بِآدَابِ اللَّهِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الْكَهْفِ: ٢٣ - ٢٤] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (إِنْ) بِمَعْنَى إِذْ مَجَازُهُ: إِذْ شَاءَ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١] وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الدُّخُولِ لِأَنَّ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَتَصْدِيقِهَا سَنَةٌ، وَمَاتَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ نَاسٌ فَمَجَازُ الْآيَةِ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كُلُّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، وَقِيلَ الاستثناء واقع على الأمر لَا عَلَى الدُّخُولِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ، كَقَوْلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ دُخُولِ الْمَقْبَرَةِ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» (١). فَالِاسْتِثْنَاءُ راجع إلى اللحوق بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا إِلَى الْمَوْتِ. ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ﴾ [الفتح: ٢٧] كلها، ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾ [الفتح: ٢٧] بِأَخْذِ بَعْضِ شُعُورِهَا، ﴿لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ [الفتح: ٢٧] أَنَّ الصَّلَاحَ كَانَ فِي الصُّلْحِ وَتَأْخِيرِ الدُّخُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾ [الفتح: ٢٥] الآية. ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ [الفتح: ٢٧] أَيْ مِنْ قَبْلِ دُخُولِكُمْ الْمَسْجِدَ الحرام، ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: ٢٧] وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: فَتْحُ خَيْبَرَ.
[٢٨] ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: ٢٨] على أنك نبي صادق صالح فِيمَا تُخْبِرُ.
[٢٩] ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح: ٢٩] تم الكلام هاهنا، قال ابْنُ عَبَّاسٍ، شَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ قَالَ مُبْتَدِئًا ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] قالوا: وفيه واو الاستئناف أَيْ وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [الفتح: ٢٩] غِلَاظٌ عَلَيْهِمْ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِمْ رَأْفَةٌ، ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] مُتَعَاطِفُونَ مُتَوَادُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَالْوَلَدِ مَعَ الْوَالِدِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح: ٢٩] أَخْبَرَ عَنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَمُدَاوَمَتِهِمْ عَلَيْهَا، ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ [الفتح: ٢٩] أن يدخلهم الجنة، ﴿وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح: ٢٩] أن يرضى عنهم، ﴿سِيمَاهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] أَيْ عَلَامَتُهُمْ، ﴿فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩] اختلفوا في هذا السِّيمَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ نُورٌ وَبَيَاضٌ فِي وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ سَجَدُوا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: اسْتَنَارَتْ وُجُوهُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَا صَلُّوا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: تَكُونُ. مَوَاضِعُ السُّجُودِ مِنْ وُجُوهِهِمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وَهُوَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ بِالَّذِي تَرَوْنَ لَكِنَّهُ سِيمَاءُ الْإِسْلَامِ وَسَجِيَّتُهُ وَسَمْتُهُ وَخُشُوعُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: وَالْمَعْنَى أَنَّ السُّجُودَ أَوْرَثَهُمُ الْخُشُوعَ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ الَّذِي يُعْرَفُونَ بِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صُفْرَةُ الْوَجْهِ مِنَ السَّهَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى وَمَا هُمْ بِمَرْضَى. قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ أَثَرُ التُّرَابِ عَلَى الجباه. قال أبو العالية لأنهم يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْأَثْوَابِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. ﴿ذَلِكَ﴾ [الفتح: ٢٩] الذي ذكرت، ﴿مَثَلُهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] صفتهم ﴿فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: ٢٩] هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ ذَكَرَ نَعْتَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، فَقَالَ: ﴿وَمَثَلُهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] صِفَتُهُمْ، ﴿فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] أراد فراخه، يُقَالُ أَشْطَأَ الزَّرْعُ فَهُوَ مُشْطِئٌ إِذَا أَفْرَخَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ نَبْتٌ وَاحِدٌ فَإِذَا خَرَجَ مَا بَعْدَهُ فَهُوَ شَطْؤُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ. هُوَ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ الطَّاقَةَ الأخرى. قوله: ﴿فَآزَرَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (فَأَزَرَهُ) بِالْقَصْرِ. وَالْبَاقُونَ بِالْمَدِّ، أَيْ قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ وشد أزره، ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ [الفتح: ٢٩] ذلك الزرع، ﴿فَاسْتَوَى﴾ [الفتح: ٢٩] أَيْ تَمَّ وَتَلَاحَقَ نَبَاتُهُ وَقَامَ، ﴿عَلَى سُوقِهِ﴾ [الفتح: ٢٩]
_________
(١) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الجنائز برقم (٩٧٥) ٢ / ٦٧١.