(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) (٩٠)
المفردات:
- الفحشاء: ما حكم الشرع بعظم قبحه من الأقوال والأفعال.
- المنكر: ما حكم الشرع بقبحه من الأقوال والأفعال.
- البغي: التعدي.
- تذكرون: تتعظون.
المعنى الإجمالي:
لما بينت الآية السابقة أن القرآن أنزل (تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)، أتت هذه الآية - وما بعدها - لتبين أن في القرآن بيانا لكل شيء يحتاجه الناس.
فالقرآن يأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ويأمرنا بترك ما يخالف هذه الأوامر، وينهانا عن المعاصي كبيرها وصغيرها، وينهانا عن التعدي، وكل هذا لأجل أن نتعظ، فنفعل ما أمرنا الله، وننتهي عن ما نهانا عنه.
المعنى التفصيلي:
- قال عبد الله بن مسعود: "ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى... ) ".
رواه البخاري في (الأدب المفرد: ٤٨٩) بسند حسن؛ للمقال الذي في عاصم بن بهدلة، وقد جاء من طرق أخرى عند الحاكم في (المستدرك: ٣٣٥٨)، وعبد الرزاق في (مصنفه: ٦٠٠٢) وغيرهم.
- (إن الله) استفتحت الآية بحرف التوكيد (إن) وباسم الجلالة (الله) تعظيما لشأن المأمور به في الآية.
- لم يأت النص مخبرا أن القرآن يأمرنا، رغم أن الآية بيان لما تضمنه القرآن من البيان، وذلك تصريحا بأن القرآن إنما هو من عند الله، (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء... ) (إن الله يأمر... )، فالتبيان من الله تعالى لا من أحد غيره.
- جاء النص (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) وليس "اعدلوا وأحسنوا وآتوا "؛ لأن ذكر الأمر فيه تعظيم الأمر، وأضرب مثلا - ولله المثل الأعلى - قول سيد في قومه لأحد أتباعه "افعل كذا" ليس بعظمة وقوة قوله له "آمرك أن تفعل كذا"؛ لأنه بقوله "افعل كذا" طلب منه الفعل فقط، ولكن بقوله "آمرك أن تفعل كذا" طلب منه الفعل، وزاد عليه التأكيد بالتصريح أن هذا الفعل هو فعل أمر إن لم تكن منتبها فانتبه، كأنه يقول له: افعل كذا وهو أمر فاحذر أن تعصيه.
- أتى التعبير بـ (يأمر) و (ينهى)؛ لأن الآية بيان للآية السابقة (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء... )، وللدلالة على أن التبيان والهدى والرحمة والبشرى تكون بإطاعة الله في الأمر والنهي.
- أتى التعبير (يأمر) و (ينهى) بصيغة الفعل المضارع؛ لأن الآية بيان للآية السابقة (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء... ) فكأن التقدير: إن الله يأمر الناس في القرآن بـ... وينهى الناس في القرآن عن... ، والقرآن حاضر يأخذ الناس أحكامهم منه في كل وقت، ونتيجة ذلك، فإن أمر الله ونهيه متجدد في كل وقت.
- حذف المفعول في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل)، أي لم يأت النص "يأمركم" أو "يأمرهم"؛ للدلالة على العموم، ليشمل كل مخاطب.
وكذلك حذف المفعول لتوجيه الانتباه إلى الفعل والفاعل، وترك الانشغال بالمفعول.
- لكن لماذا لم يحذف المفعول في قوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) (النساء: ٥٨)
جاءت هذه الآية في سياق بيان ما وقع فيه الكفار من الكفر والمعاصي وتضييع الأمانات والحقوق، فاستأنفت الآية أمر المؤمنين لئلا يكونوا مثلهم، فكان الخطاب فيها موجها للمؤمنين، ولذا كان من المهم التنبيه على المفعول في هذا السياق.
- (إن الله يأمر... ) ما جاء الأمر به في هذه الآية إنما هو مجمل غير مفصل، وذلك من باب الإشارة إلى أن القرآن احتوى على بيان كل ما يحتاجه الناس في دينهم، وعلى هذا يكون التقدير (إن الله يأمر) في القرآن على وجه التفصيل (بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)، (وينهى) في القرآن على وجه التفصيل (عن الفحشاء والمنكر والبغي).
- (بالعدل) العدل في الآية لفظ عام يندرج تحته ما لا ينحصر من الأنواع، فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وهو ضد الظلم.
فتوحيد الله من العدل؛ ألا ترى أن الله يقول (... إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان: ١٣).
وعبادة الله من العدل؛ لأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
وطاعة الله من العدل مع النفس؛ لأننا بالطاعة ندخل الجنة، وبالمعاصي ندخل النار، قال تعالى (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (البقرة: ٥٧).
ومن العدل أيضا: العدل مع الأولاد وبينهم بكل صوره، والعدل مع الزوجات وبينهن، والعدل مع الناس وبينهم.
حتى أن إعطاء الحيوان حقه من العدل (فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) (البخاري: ٣٠٧١) (مسلم: ٤٩٥١)
فيندرج تحت العدل كل الأقوال والأفعال بكل ارتباطاتها مع كل الأشياء من أشخاص وأوقات وحيوان وجماد.
- والأمر (بالعدل) نهي عن كل صور الظلم في هذه الحياة، فانظر - بارك الله فيك- سعة عموم الأمر بالعدل.
- (والإحسان) الواو للعطف، والإحسان مصدر أحسن، نقول: أحسن إحسانا.
والإحسان هو إتقان الشيء على أكمل وجه، وله أنواع، منها: الإحسان إلى غيرنا بمعاملته على أكمل وجه، نقول: أحسن الابن إلى والديه. وكذلك إتقان المرء فعله، نقول: أحسن الرجل عمله.
وقيل: إن "الإحسان" هو المندوب، وهذا غير صحيح، فإن من الإحسان ما هو فرض كالإحسان إلى الوالدين (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا... ) (الإسراء: ٢٣)، ومن الإحسان ما هو مندوب، كما يحسن أحدنا إلى أحد دون أن يجب عليه.
- (الإحسان) لفظ عام يندرج تحته كل صور الإتقان في الأقوال والأفعال، فالإحسان مع الله (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (البخاري: ٤٨) (مسلم: ٩)
حتى أن الله شرع لنا الإحسان للحيوان فعن رسول الله ﷺ قال (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته) (مسلم: ٣٦١٥)
- ولعموم "الإحسان" في الآية فإنه لم يبق أي نوع من الإحسان إلا واندرج تحته.
- والأمر بـ "الإحسان" أمر بكل مندوب فضلا عن الفرض، ونهي عن كل مكروه فضلا عن الحرام.
فانظر - بارك الله فيك - سعة عموم الأمر بالإحسان.
- قدم ذكر "العدل" على "الإحسان"؛ لأن "العدل" كله واجب، بينما "الإحسان" واجب ومندوب، والواجب أولى؛ لقول الرسول ﷺ في الحديث القدسي: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه " (البخاري: ٦٠٢١)
- قد يسأل سائل: لماذا بدأ الأمر بالبر أولا في قوله تعالى (... وتعاونوا على البر والتقوى... ) (المائدة: ٢) مع أن البر يضم المندوبات، ثم جاء الأمر بالتقوى التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذا على خلاف ما ورد في هذه الآية من الترتيب حيث كان الأمر بالعدل أولا ثم الأمر بالإحسان؟
جاء الترتيب في هذه الآية بالعدل أولا ثم الأمر بالإحسان؛ لأن هذه الآية بيان لما تضمنه القرآن، فكان المناسب أن يذكر الأهم، بينما في قوله تعالى (... وتعاونوا على البر والتقوى... ) (المائدة: ٢) فإن فيه حضا على التعاون، فبدئ بالأعم وهو البر؛ لتوسيع دائرة الحض على التعاون، ثم ذكر الخاص - وهو التقوى - تنبيها على أهميته.
إذن، فلكل آية مقصد خاص، وبين المقصدين فرق؛ ولذا اختلف التعبير.
- (وإيتاء ذي القربى) الواو للعطف، أي: أن الله سبحانه وتعالى يأمر كذلك بإيتاء ذي القربى، والإيتاء: الإعطاء، و (القربى) مصدر، وقيل: مؤنث أقرب. وهم كل من تربطك به قرابة.
- (وإيتاء ذي القربى) أمر بإعطاء القرابة حقوقهم من البر والصلة، وحذف ذكر المعطى في الآية؛ ليعم كل ألوان العطاء وأنواعه وأشكاله، زيادة في الخير، حتى نعطي ونعطي ولا نستكثر، وكذلك يشمل هذا العطاء الواجب كما أنه يشمل المندوب.
- لكن صلة القربى تدخل ضمن العدل والإحسان، فلماذا ذكرت بعدهما؟
ذكرت صلة القربى بعدهما من باب ذكر الخاص بعد العام؛ للأهمية والتأكيد على حقوق ذوي القربى.
وجاء هذا التنبيه؛ لأن كثيرا من الناس من يحسن إلى البعيد وينسى القريب؛ إما غفلة عن قرابته - كما قيل: شدة القرب حجاب - وإما سعيا إلى السمعة بين الناس، وهذا لا يتحقق بالإحسان إلى القريب كما في الإحسان إلى البعيد، وإما طمعا بعلاقات جديدة غير علاقة القربى؛ لأنها مضمونة.
- لماذا لم يخص الوالدين بالذكر كما في قوله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) (النساء: ٣٦)؟
آية النحل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. ) عامة، وآية النساء (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى... ) تفصيلية، فناسب عدم ذكر الوالدين في "سورة النحل"؛ لأن الوالدين يدخلان ضمن ذوي القربى دخولا أولويا.
- لماذا جاء التعبير في هذه الآية بـ (وإيتاء ذي القربى) وليس "وإيتاء أولي القربى"؟
وقبل الإجابة عن السؤال فلا بد من بيان معنى "ذو" و"أولو"، فأما "ذو" اسم بمعنى الصاحب، فـ "ذو القربى" صاحب علاقة القرابة، و"أولو" جمع بمعنى "ذو"، ولا واحد له من لفظه.
جاء التعبير في القرآن بـ "أولي القربى" في سياق الكلام عن المقربين من الأقارب، وانظر - بارك الله فيك - إلى الآيات:
١ - (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) (النساء: ٨) وعادة لا يحضر هذه القسمة كل قريب، بل الأقارب الذين تربطهم بأهل الميت قرابة أقوى من غيرهم، فقد يجتمع لأهل الميت من الأقارب ما يصل إلى ألف رجل، ولكن لا يدعى لمثل هذا الأمر إلا القليل الأقربون.
٢ - (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) (النور: ٢٢)
سبب نزول هذه الآية أن مسطح بن أثاثة لما قال في حق عائشة ما قال، وأنزل الله براءتها، أقسم أبو بكر أن لا ينفق على مسطح، فأنزل الله هذه الآية، فأنفق عليه أبو بكر بعد نزول الآية.
ومسطح إنما هو قريب لأبي بكر؛ لأن أم مسطح هي ابنة خالة أبي بكر؛ لأن أمها هي بنت صخر بن عامر، وهي خالة أبي بكر. انظر (البخاري: ٣٨٢٦، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك) (مسلم: ٤٩٧٤، كتاب: التوبة، باب: حديث الإفك)
٣ - (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (١١٣) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) (التوبة: ١١٤)
وفي هذه الآية نهي عن الاستغفار لذوي القربى مهما كانت قرابتهم؛ لأن المسلم لا يصر عادة على الاستغفار لكافر إلا لقربه الشديد، ولذا جاء الكلام في الآية التالية عن استغفار إبراهيم لأبيه.
أما الآيات التي جاء التعبير فيها بـ "ذي القربى " فإن موضوعها إما أن يكون في النصرة أو الإنفاق العام، وإنما جاء التعبير عن القرابة بالمفهوم الأوسع في النصرة؛ لأن النصرة إنما هي عند العرب عامة في كل القرابة، اقتربت أم بعدت؛ لأن النصرة إنما هي من مفهوم العشيرة والقبيلة، وكذلك جاء التعبير عن القرابة بالمفهوم الأوسع في الإنفاق العام ليشمل كل القرابة وإن بعدت قرابتهم.
أما الآيات التي جاءت في النصرة: