لذلك تبدأ بذِكْره، وتَوَقُّعِه أوّلاً ومِنْ قَبْلِ أن تَذكر الفعلَ في نفسه١، لكي تُباعِدَه بذلك من الشُّبْهة، وتَمْنعَه من الإِنكار، أَوْ مِنْ أن يُظَنَّ بك الغَلطُ أو التزيُّدُ. ومثالُه قولُك: "هو يعطي الجزيل"، و "هو يُحبُّ الثناءَ"، لا تُريد أن تَزعم أنه ليس هنا مَنْ يُعطي الجزيلَ ويُحِبُّ الثناءَ غيرَهُ، ولا أن تُعرِّض بإنسانٍ وتحطَّه عنه، وتجعلَه لا يُعطي كما يُعْطي، ولا يَرْغَبُ كما يَرغب٢، ولكنكَ تريدُ أن تُحقِّق على السامعِ أنَّ إعطاءَ الجزيل وحُبَّ الثناءِ دأْبُهُ، وأن تُمكِّن ذلك في نفسه.
١٢١ - ومثاله في الشعر:

همُ يفْرِشُونَ اللِّبدَ كلَّ طمِرَّةٍ وأَجْردَ سَبَّاحٍ يَبُذُّ المُغَالِبَا٣
لم يُرِدْ أنْ يدَّعي لهم هذه الصفةَ دَعْوى مَنْ يُفرِدُهم بها، ويَنصُّ عليهم فيها، حتى كأنهُ يَعرِّضُ بقومٍ آخرين، فينْفي أن يكونوا أصحابَها. هذا مُحال. وإِنَّما أرادَ أن يصِفَهم بأنهم فرسانٌ يَمتهِدون صَهَواتِ الخيلِ، وأنهم يَقْتعدون الجِيادَ منها٤، وأنَّ ذلك دأبُهُم، من غير أن يَعْرض لِنفْيه عن غَيرهم، إلاَّ أنه بدأَ بذكرِهم لِيُنبِّه السامعَ لهم، ويُعْلِمَ بَدِيّاً قصْدَه إليهم بما في نفسهِ من الصفة٥،
١ السياق: "وتوقعه أولًا.... في نفسه".
٢ يعني: يرغب في الثناء.
٣ "اللبد" الصوف أو الشعر المتلبد وقد جرت العادة بوضع قطعة منه على ظهر الفرس تحت السرج للينه. و "الطمرة" أنثى الطمر وهو الفرس الجواد أو المتجمع المتداخل الخلق كأنه متهيئ للوئب دائمًا. و "الأجرد" الفرس القصير الشعر. و "السباح" الذي يشبه عدوه السباحة. و "يبذ" يغلب "رشيد".
٤ عند رشيد رضا في نسخة: "يعتقدون"، أي يملكونها.
٥ "بديًا"، أي ابتداء من أول الأمر.


الصفحة التالية
Icon