وعلى العكس، فربَّ كلمةِ حَقٍّ أُريدَ بها باطلٌ، فاسْتُحِقَّ عليها الذمُّ، كما عرفتَ من خبر الخارجي مع علي راضون الله عليه١. ورُبَّ قولٍ حَسَنٍ لم يَحْسُنْ من قائِلِه حينَ تَسبَّبَ به إِلى قبيحٍ، كالذي حكى الجاحظ قال: "رجع طاوس يوماً عن مجلسِ مُحمّدِ بنِ يوسُفَ٢، وهوَ يومئذٍ والي اليمنِ فقال: ما ظَننتُ أنَّ قول: "سبحان الله" يكون معصية لله تعالى حتى كانَ اليومُ، سمعتُ رجلاً أَبلغَ ابنَ يوسُفَ عن رجلٍ كلاماً، فقالَ رجلٌ من أهلِ المَجلس: "سبحانَ الله"، كالمستعظمِ لذلك الكلامِ، ليُغضِبَ ابنَ يوسف"٣.
فبهذا ونحوِه فاعتبرْ، واجْعلْهُ حكمًا بينك وبين الشعر.
الدفاع عن الشَّعر:
١٥ - وبعدُ، فكيفَ وَضعَ منَ الشعرِ عندكَ، وكسبَهُ المقتَ منك، أنَّك وجدتَ فيه الباطلَ والكذبَ وبعضَ ما لا يَحْسنُ، ولم يَرفعْه في نفسِك، ولم يُوجِب له المحبَّةَ من قبلك، أنْ كانَ فيه الحقُّ والصدقُ والحكمةُ وفصْلُ الخِطاب، وأنْ كانَ مَجْنى ثمرِ العقولِ والألبابِ، ومجتمَعَ فِرَقِ الآدابِ، والذي قيَّد على النّاسِ المعاني الشريفةَ، وأفادَهُم الفوائدَ الجليلة، وترسَّل بينَ الماضي والغابرِ، يَنقل مكارمَ الأخلاق إِلى الولدِ عن الوالد، ويؤدِّي ودائعَ الشَّرف عن الغائب إِلى الشَاهد، حتى تَرى به آثارَ الماضين مخلَّدةً في الباقين، وعقول الأَوَّلين مردودةً في الآخرين، وتَرى لكلَّ مَن رَام الأدبَ،

١ وذلك حين قال البرج بن مسهر الطائي الشاعر الخارجي، لعلي رضي الله عنه: "لا حكم إلا الله"، وهي شعار الخوارج، فقال علي: "كلمة حق أريد بها باطل، وإنما مذهبهم أن لا يكون أمير، ولا بد من أمير، برًا كان أو فاجرًا".
٢ في هامش "ج": "هو أخو الحجاج"، يعني "محمد بن يوسف".
٣ في البيان والتبيين ١: ٣٩٥.


الصفحة التالية
Icon