وتُوهِمُ أنك لم تَذْكُر ذلكَ الفعلَ، إلاَّ لأنْ تُثْبِتَ نفْسَ معناه، مِنْ غيرِ أن تُعدِّيَهُ إلى شيءٍ، أو تَعْرضَ فيه لمفعولٍ.
١٥٨ - ومثاله قول البحتري:

شَجْوُ حسَّادِهِ وغَيْظُ عِداهُ أن يَرى مُبْصِرٌ ويسْمَعَ واعِ١
المعنى، لا محالةَ: أن يَرى مُبصرٌ مَحاسِنَه، ويَسْمعَ واعٍ أخبارَه وأوصافَه، ولكنك تعلمُ على ذلك أنه كأنه يَسْرِقُ علْمَ ذلك مِنْ نفْسِه، ويدْفَع صورتَه عن وَهْمه، ليَحْصُل له معنى شريفٌ وغرَضٌ خاصٌّ. وذاك أنه يمدحُ خليفة٢، وهو المعتزُّ، ويُعرِّضُ بخليفةٍ وهو المستعينُ، فأرادَ أن يقولَ: إنَّ محاسنَ المعتزِّ وفضائلَه، المحاسنُ والفضائلُ يَكفي فيها أنْ يَقع عليها بَصرٌ ويَعيَها سمْعٌ حتى يَعْلَم أنه المُستحِقُّ للخلافة، والفردُ الوحيدُ الذي ليس لأحدٍ أن يُنازِعَه مَرْتبتَها، فأنتَ ترَى حسَّادَه وليس شيءٌ أشْجى لهم وأغيظ، من علمهم بأن ههنا مُبْصراً يرَى وسامعاً يَعي، حتى لَيتَمنَّوْنَ أنْ لا يكونَ في الدنيا مَنْ له عينٌ يُبصر بها، وأُذُنٌ يَعي معها، كي يَخْفى مكانُ استحقاقِه لِشَرف الإمامةِ، فيجدوا بذلك سَبيلاً إلى منازعته إياها.
مثال ثان من الخفي:
١٥٩ وهذا نوعٌ آخر منه، وهو أن يكونَ معك مفعولٌ معلومٌ مقصودٌ قَصْدُهُ، قد عُلِمَ أنه ليس للفعلِ الذي ذكرتَ مفعولٌ سِواهُ، بدَليلِ الحالِ أو ما سَبَق منَ الكلام، إلاَّ أنك تَطْرحُه وتَتَناساهُ وتدَعُه يَلزَمُ ضميرَ النفسِ، لِغَرضٍ غيرِ الذي مَضى. وذلك الغرضُ أن تتوفرَ العنايةُ على إثباتِ الفعلِ للفاعلِ، وتخلصَ له، وتَنصرف بجُملتها وكما هي إليه.
١ في ديوانه.
٢ في المطبوعة و "ج": "وقال إنه يمدح"، والصواب مافي "س".


الصفحة التالية
Icon