- د -
الفقيه الشافعي، المتكلم المعتزلي [توفي سنة ٤١٥]، وكان إمام أهل الاعتزال في زمانه، وعمر دهرًا طويلًا، وكثر أصحابه، وبعد صيته، ورحل إليه طلاب العلم.
في تلك السنة صدر الجزء السادس عشر من كتاب "المغني"، فإذا هو يتضمن فصولًا طويلة في الكلام على "ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أعجاز القرآن، وسائر المعجزات الظاهرة عليه صلى الله عليه وسلم"، [المغني ١٦ - ١٤٣ - ٤٣٣]، فلما قرأته ارتفع كل شك، وسقط النقاب عن كل مستتر، وإذا التعريض الذي ذكره عبد القاهر حين قال: "واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إِذا كان صدره عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه... " [انظر ما مضى]، لا يعني بهذا التعريض وبهذه الصفة أحدًا سوى قاضي القضاة المعتزلي عبد الجبار، فهو المعتزلي النابه الذكر، البعيد الصيت، العالي المنزلة في علم الكلام والأصول، بيد أنه هو الخامل الذكر، الخالي الوفاض من علم "البلاغة" و "الفصاحة" و "البيان"، ولكنه بهذه البضاعة المزجاة من علم "الفصاحة"، جاء يتكلم في الوجوه التي يقع بها التفاضل في فصاحة الكلام، [المغني: ١٦: ١٩٧ - ١٩٩ وما بعدها]، وفي "إعجاز القرآن" عامة!!
والدليل الساطع، هو أن الأقوال التي ذكرتها آنفًا، وقلت: إن عبد القاهر لم يصرح بنسبتها إلى أحد، هي أقوال القاضي عبد الجبار في كتابه المغني بنصها ولفظها، فهو يقول:
"إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة... "، ثم يقول بعد ذلك: "إن المعاني لا يقع فيها تزايد، وإذن فيجب أن يكون التزايد عنه الألفاظ كما ذكرناه... "، [المغني١٦: ١٩٩، ٢٠٠] وهذا القولان هما اللذان يدور كتاب "دلائل الإعجاز" على ردهما وإبطال معناهما. هذا فضلًا عن أقوالٍ أخر ذكرها عبد القاهر، ووجدتها مائلة بنصها
لساناً يَحُوك الوشيَ، ويصَوغ الحَلْيَ، وَيلفِظ الدرَّ، وينفثُ السِّحرَ، ويَقْري الشَّهْدَ١، ويُريكَ بدائعَ منَ الزهر، ويحنيك الحلو اليانع من التمر، والذي لولا تحفيه بالعوم، وعنايتهِ بها، وتصويرهُ إياها، لبقيتْ كامنةً مستورة، ولمَا استبنْتَ لها يدَ الدهرِ صورةً٢، ولاستمرَّ السِّرارُ بأهلَّتها٣، واسْتَولى الخَفَاءُ على جُملتِها، إلى فوائدَ لا يُدركها الإحصاءُ، ومحاسنَ لا يَحْصرُها الاستقصاء.
ما لحق علم البيان من الضيم والخطأ:
إلاَّ أنك لن تَرى على ذلك نوعاً من العلم قد لقيَ من الضَّيْم ما لَقِيَهُ، ومُنيَ مِنَ الحَيْف بِما مُنِيَ به٤، ودَخلَ على الناسِ منَ الغلَط في مَعْناهُ ما دخَلَ عليهم فيهِ، فقد سبقتْ إلى نُفوسهم اعتقاداتٌ فاسِدةٌ وظنونٌ رديَّةٌ، ورَكبهُم فيه جهلٌ عظيمٌ وخطأٌ فاحشٌ، تَرى كثيراً منهم لا يَرى له معنىً أكثرَ ممَّا يرَى للإشارةِ بالرأس والعين، وما يَجدُه لِلخط والعَقْد٥، يقولُ: إنَّما هو خبرٌ واستخبارٌ، وأمْر ونهيٌ، ولكلِّ مِن ذلك لفظٌ قد وُضع له، وجُعل دليلاً عليه، فكلُّ مَنْ عَرفَ أوضاعَ لغةٍ منَ اللغات، عربيةً كانت أو فارسية، وعرَفَ المغْزى من كلَّ لفظةٍ، ثم ساعدَه اللسانُ على النُّطق بها، وعلى تَأديةِ أجراسِها وحُروفِها، فهو بيِّن في تلك اللّغةِ، كاملُ الأداةِ، بالغٌ منَ البيانِ المبلغَ الذي لا مزيدَ عليه، مُنْتَه إلى الغايةِ التي لا مذهبَ بعدها يسمع الفصاحة والبلاغة
٢ يقولون: "لا أفعله يد الدهر"، أي لا أفعله أبدًا.
٣ "السرار" بالكسر، اختفاء القمر في آخر ليلة في الشهر.
٤ "مني"، ابتلى وأصيب.
٥ يريد بالعقد التفاهم بعقد الأصابع