فصل: في فن آخر من السؤال ١
٢٨ - وهو أن يقولوا: إنا قد علمنا من عادات الناس وطبائعهم أن الواحد منهم تواتيه العبارة، ويطيعه اللفظ في صنف من المعاني، ثم يمتنع عليه مثل تلك العبارة وذلك اللفظ في صنف آخر١.
فقد يكون الرجل، كما لا يخفى، في المديح أشعر منه في المرائي، وفي الغزل واللهو والصيد أنفذ منه في الحكم الآداب، ونراه يستطيع في الأوصاف والتشبيهات ما لا يستطيع مثله في سائر المعاني، وترى الكاتب وهو في الإخوانيات أبلغ منه في السلطانيات، وبالعكس. هذا أمر معروف ظاهر لا يشتبه. وإذا كان كذلك، فعلل العجز الذي ظهر فيهم عن معارضته القرآن، لم يظهر لأنهم لا يستطيعون مثل ذلك النظم، ولكن لأنهم لا يستطيعونه في مثل معاني القرآن.
واعلم أن هذا السؤال إذا وقع الجواب عنه وقع عن جملته، وكان الحسم في الداء كله. وذاك أن يقولوا: إنه لا تصح المطالبة إلا بما يتصوره وجوده، وما يدخل في حيز الممكن، وإنا لنعلم من حال المعاني أن الشاعر يسبق في الكثير منها إلى عبارة يعلم ضرورة أنها لا يجيء في ذلك المعنى إلا ما هو دونها ومنحط عنها، حتى يقضي له بأنه قد غلب عليه واستبد به، كما قضى الجاحظ لبشار في قوله:
كأنَّ مُثارَ النقعِ فَوقَ رؤوسِنا | وأسيافنَا لَيْلٌ تهاوى كواكبه |
١ أسقط الناشران "ثم"، من قوله: "ثم يمتنع"؟ وغبرًا أيضًا ما في المخطوطة، وكتبا: "في جزء آخر"، ولا أدري لم.