إذَا تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا جَرَيَانَ الْمَعَارِيضِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ أَيْضًا لَا سُلْطَانَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا، مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: اُكْفُرْ بِاَللَّهِ، فَيَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ، يُرِيدُ بِاللَّاهِي، وَيَحْذِفُ الْيَاءَ كَمَا تُحْذَفُ مِنْ الْغَازِي وَالْقَاضِي وَالرَّامِي، فَيُقَالُ: الْغَازِ وَالْقَاضِ ذَرَّةً.
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُ: اُكْفُرْ بِالنَّبِيِّ، فَيَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ بِالنَّبِيِّ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّبِيِّ الْمَكَانَ الْمُرْتَفِعَ مِنْ الْأَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ لَهُ: اُكْفُرْ بِالنَّبِيءِ مَهْمُوزًا، يَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِالنَّبِيءِ بِالْهَمْزِ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُخَبِّرَ أَيَّ مُخَبِّرٍ كَانَ، أَوْ يُرِيدُ بِهِ النَّبِيءَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى | مَكَانَ النَّبِيءِ مِنْ الْكَاثِبِ |
وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، مَشْهُورًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَرَئِيسُهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ كِتَابَ الْمَلَاحِنِ لِلْمُكْرَهِينَ، فَجَاءَ بِبِدَعٍ فِي الْعَالَمِينَ، ثُمَّ رَكَّبَ عَلَيْهِ الْمُفْجِعَ الْكَابِتَ، فَجَمَعَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعًا وَافِرًا حَسَنًا، اسْتَوْلَى فِيهِ عَلَى الْأَمَدِ، وَقَرْطَسَ الْغَرَضَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ؛ إذْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسَّنَهُ الْإِكْرَاهُ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْبُحُ لِذَوَاتِهَا وَلَا تَحْسُنُ لِذَوَاتِهَا؛ وَإِنَّمَا تَقْبُحُ وَتَحْسُنُ بِالشَّرْعِ؛ فَالْقَبِيحُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ.