وَيُرْوَى أَنَّ سَبَأً دَوَّخَ الْأَرْضَ بِأَجْنَادِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا، سَهْلًا وَجَبَلًا، وَقَتَلَ وَأَسَرَ وَبِهِ سُمِّيَ سَبَأٌ وَدَانَ لَهُ الْخَلْقُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إنِّي لَمَّا نِلْت مَا لَمْ يَنَلْ أَحَدٌ رَأَيْت الِابْتِدَاءَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ؛ فَلَمْ أَرَ أَوْقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ إذَا أَشْرَقَتْ، فَسَجَدُوا لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ، فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمَرَحِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: ٣٨]: قُرِئَ ﴿سَيِّئُهُ﴾ [الإسراء: ٣٨] بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَبِالْهَاءِ، وَبِنَصَبِ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءِ، فَمَنْ قَرَأَهُ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ أَرَادَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِ حُسْنٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَفِيهِ سَيِّئٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَرَجَعَ الْوَصْفُ بِالسُّوءِ إلَى السِّيءِ مِنْهُ. وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْهَمْزَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَالتَّاءِ رَجَعَ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ مَكْرُوهًا، وَالْكَرَاهِيَةُ عِنْدَكُمْ إرَادَةُ عَدَمِ الشَّيْءِ، فَكَيْفَ يُوجَدُ مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَهُ؟.
قُلْنَا: قَدْ أَجَبْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ، بِبَسْطٍ. بَيَانُهُ عَلَى الْإِيجَازِ؛ أَنَّ مَعْنَى مَكْرُوهًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَمُرَادًا مَأْمُورٌ بِهِ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]؛ أَيْ يَأْمُرُ بِالْيُسْرِ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْعُسْرِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَيْضًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا شَرْعًا، أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧]؛ مَعْنَاهُ دِينًا لَا وُجُودًا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ عَبْدِهِ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ [الإسراء: ٣٩]: قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا، وَفِي كُتُبِنَا، وَفَسَّرْنَا وُجُوهَهَا وَمَوَارِدَهَا: وَلُبَابُهَا هَاهُنَا أَنَّهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ. وَأَعْظَمُهَا قَدْرًا وَأَشْرَفُهَا مَأْمُورًا مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ.