فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ. فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: ﴿قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣] الْمَصْدَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك.
وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: سَلِمْت مِنِّي، فَأَسْلَمُ مِنْك.
[الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا]
وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: ٦٧].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾ [الفرقان: ٦٧] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: لَمْ يُنْفِقُوا كَثِيرًا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ.
الثَّالِثُ: لَمْ يَتَمَتَّعُوا لِلنَّعِيمِ، إذَا أَكَلُوا لِلْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَبِسُوا لِلسُّتْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صِحَاحٌ، فَالنَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ، فَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لِلَّذَّةِ جَائِزٌ، وَلِلتَّقْوَى وَالسَّتْرِ أَفْضَلُ، فَمَدَحَ اللَّهُ مَنْ أَتَى الْأَفْضَلَ، وَإِنْ كَانَ مَا تَحْتَهُ مُبَاحًا.
وَإِذَا أَكْثَرَ رُبَّمَا افْتَقَرَ، فَالتَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْلَى، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي لُبَابَةَ وَلِكَعْبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.