وَلَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ فِيهَا ذِكْرٌ لَفْظِيٌّ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ نَسَبَهَا إلَى الْمَعْنَى.
الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ؛ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ صَحِيحٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ نَصُّ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ؛ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْفِرَاقُ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ، وَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ؛ فَإِنَّ كَوْنَ قَبُولِ الْخِيَارِ ثَلَاثًا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى حُكْمٍ بِمَذْهَبٍ بِقَوْلٍ يُخَالِفُ فِيهِ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ: إنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي تَفْصِيلٍ، وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ قَالَ: سَرَاحًا جَمِيلًا. وَالثَّلَاثُ مِمَّا لَا يَجْمُلُ خَطَأً؛ بَلْ هِيَ مِمَّا يَجْمُلُ وَيَحْسُنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] فَسَمَّى الثَّلَاثَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ إذَا فُرِّقَتْ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً فَلَا.
قُلْنَا: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الثَّلَاثَ فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ، كَمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ عِنْدَك فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى السَّرَاحُ الْجَمِيلُ، وَالسَّرَاحُ الْحَسَنُ فُرْقَةٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ هَذَا الْعَالِمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: ابْعَثِي إلَى أَبَوَيْك. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ. فَقَالَتْ: إنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً؛ لَا تُخَيِّرْ مِنْ نِسَائِك مَنْ تُحِبُّ أَنْ تُفَارِقَنِي، فَخَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعًا، فَكُلُّهُنَّ اخْتَرْنَهُ».
«قَالَتْ عَائِشَةُ: خَيَّرَنَا فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا».


الصفحة التالية
Icon