الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَهِيَ مِنْ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ: ﴿نِصْفَهُ﴾ [المزمل: ٣].
ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿نِصْفَهُ﴾ [المزمل: ٣] دَلِيلٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ فَبَقِيَ مِثْلُهُ، وَالْمَطْلُوبُ اسْتِثْنَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ فَبَقِيَ أَقَلُّ مِنْهَا تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْجَمِيعِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿نِصْفَهُ﴾ [المزمل: ٣] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ:
﴿اللَّيْلَ﴾ [المزمل: ٢]؛ كَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يَسِيرًا، وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ حَتَّى إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، «اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا» ذَكَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ وَآخِرَهُ.
وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: ﴿نِصْفَهُ﴾ [المزمل: ٣] بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: ﴿قَلِيلا﴾ [المزمل: ٣] كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قُمْ اللَّيْلَ إلَّا نِصْفَهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ، وَيَكُونُ أَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنْ مُتَنَاوِلِ الْجُمْلَةِ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِحَبْلٍ مُعَلَّقٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: فُلَانَةُ تُصَلِّي لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَإِذَا أُضْعِفَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا.»
وَقَدْ انْدَرَجَتْ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾ [المزمل: ٤] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَعْنَاهُ بَيِّنٌ قِرَاءَتُهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ثَغْرٌ رَتِلٌ وَرَتَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا إذَا كَانَ مُفَلَّجًا لَا فَضَضَ فِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ بَعْضُهُ إثْرَ بَعْضٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ فَسَّرَهُ تَفْسِيرًا، يُرِيدُ تَفْسِيرَ الْقِرَاءَةِ، حَتَّى لَا يُسْرَعُ فِيهِ فَيَمْتَزِجَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ آيَةً وَيَبْكِي، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾ [المزمل: ٤]؛ هَذَا التَّرْتِيلُ» وَسَمِعَ رَجُلٌ عَلْقَمَةَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً حَسَنَةً، فَقَالَ: رَتِّلْ الْقُرْآنَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ مَدًّا». وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ هَذَا.