عَنْ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي الْآثَارِ نِصْفَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَأْمُورٌ وَمَزْجُورٌ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْمَزْجُورُ امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ، وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠].
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ نَوْعًا مِنْ الصَّبْرِ حِينَ كَانَ كَفًّا عَنْ الشَّهَوَاتِ قَالَ تَعَالَى: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ». قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كُلُّ أَجْرٍ يُوزَنُ وَزْنًا، وَيُكَالُ كَيْلًا إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُحْثَى حَثْيًا، وَيُغْرَفُ غَرْفًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَلَّمَ فِيمَا أَصَابَهُ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَلَا مِقْدَارَ لِأَجْرِهِ، وَأَشَارَ بِالصَّوْمِ إلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا]
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: ١٧].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ وَلَا بُعِثَ إلَيْهِمْ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ وَقَرَ فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهِيَةُ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعُوا مِنْ أَحْسَنِ مَا كَانَ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ، فَلَا جَرَمَ قَادَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْجَنَّةِ.