وغَدَتْ هذه الحاضرة الإفريقية قبلتَهم، يستأنسون فيها لمواصلة نشاطهم العلمي، ويجدون أيْدًا على نقل الثقافة الأندلسية إلى قطَّانها؛ وقد تفطَّن حازم لهذا الأمر فضمَّنَهُ قوله:

قد نَدَّ فيها الأَسى عَنْ أَهْلِ أنْدَلُسٍ والأنْسُ فيها عليهم وفْدُه قَدِمَا
وأُبْدِلُوا جَنَّةً من جنة حُرِمُوا منها وقد بُوِّؤُا من ظِلِّها حُرُما
بل إن بعض الباحثين ذهب إلى حدِّ أن هؤلاء الوافدين الأندلسيين زاحموا علماء وأدباء البلد من أهل تونس، ممن ساءهم أن يروا المهاجرين الأندلسيين يحتلون أرفع المناصب في الدولة الحفصية ويزاحمونهم عليها بما يملكون من ثقافات ومواهب، أي أن هناك نزعة بلدية ضيقة لا تنظر بارتياح إلى تسنم الوافدين الغرباء من الأندلسيين أعلى المناصب وأن في هؤلاء غرورا واعتدادا بأنفسهم وثقافتهم وكونهم أهلها وأحق بها من غيرهم.
وإيّا ما يكون، فعناية بني حفص بالعلماء؛ حملت الكثير من علماء الأندلس على انتجاع ربوعهم والانقطاع لخدمتهم، إجابة للرغبة العلمية الصادقة ووفاء بالواجب المفروض، فبثُّوا العلم ونشروا الأدب، وقدَّموا التآليف الجليلة لخزائن ملوك آل حفص، ونثروا على الأسماع محامدهم، وأشادوا بمفاخرهم.
وقد كان لهؤلاء الطارئين لواء مرفوع في نشر العلم، ووصل سلاسل إسناده بين الضفة الإفريقية والأندلس؛ حتى إن ابن خلدون يدين في شطر من ثقافته لهؤلاء، حيث كان يعكف على لقاء المشيخة من أهل المغرب والأندلس الوافدين في غرض السفارة، ويُقِرُّ أنه حصل من الإفادة منهم على البُغية.
وحاصلُه أنهم طائفةٌ من جلة العلماء وأفذاذ الأدباء والشعراء من مهاجرة الأندلس إلى تونس اتخذوا القطر الإفريقي وطنا امتزجوا بسكانه، وانتظموا في سلك ذوي الرتب العليا به، اختاروه لهم وطنا ثانيا آواهم في حياتهم، واحتضن رفاتهم بعد مماتهم، فأصبحوا كآحاد أبنائه الأصليين.


الصفحة التالية
Icon