وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَالَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ أُمُورٌ: مِنْهَا الْبَعْثُ، وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَمِنْهَا إِقْرَارُ قَوْمٍ بِأَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ وَلَكِنْ مَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ التَّقْلِيدُ، كَأَبِي طَالِبٍ.
[سورة النحل (١٦): آية ٤٠]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
أَعْلَمَهُمْ سُهُولَةَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، أَيْ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَثَ مَنْ يَمُوتُ فَلَا تَعَبَ عَلَيْنَا وَلَا نَصَبَ فِي إِحْيَائِهِمْ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُحْدِثُهُ، لِأَنَّا إِنَّمَا نَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ" فَيَكُونُ" نَصْبًا عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُولَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ" كُنْ". الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى فَهُوَ يَكُونُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى «١». وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَوْقَعَ لَفْظَ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا وُجِدَ وَشُوهِدَ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ:" كُنْ" مَخْلُوقًا لَاحْتَاجَ إِلَى قَوْلٍ ثَانٍ، وَالثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ وَتَسَلْسَلَ وَكَانَ مُحَالًا. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا خَيْرِهَا وَشَرِّهَا نَفْعِهَا وَضُرِّهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَرَى فِي سُلْطَانِهِ مَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُهُ فَلِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا لِكَوْنِهِ جَاهِلًا لَا يَدْرِي، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا لَا يُطِيقُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِاكْتِسَابِ الْعِبَادِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ غَيْرُ مُرِيدٍ لَهُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَفْعَالِنَا يَحْصُلُ عَلَى خِلَافِ مَقْصُودِنَا وَإِرَادَتِنَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُرِيدًا لَهَا لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا قَوْلُ الطَّبِيعِيِّينَ، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.
[سورة النحل (١٦): آية ٤١]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)

(١). راجع ج ٢ ص ٩٠.


الصفحة التالية
Icon