فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي كِرْشِهَا طَبَخَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا وَأَعْلَاهُ دَمًا، وَالْكَبِدُ مُسَلَّطٌ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَتَقْسِمُ الدَّمَ وَتُمَيِّزهُ وَتُجْرِيهِ فِي الْعُرُوقِ، وَتُجْرِيَ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ فِي الْكِرْشِ،" حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ «١» النُّذُرُ". (خالِصاً) يُرِيدُ مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ وَقَدْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: خَالِصًا بَيَاضُهُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ «٢» خُضْرِ الْمَنَاكِبِ
أَيْ بِيضُ الْأَكْمَامِ. وَهَذِهِ قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كل شي بِالْمَصْلَحَةِ. السَّادِسَةُ- قَالَ النَّقَّاشُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَقَالَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ وَأَخْذٌ شَنِيعٌ، اللَّبَنُ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْقُدْرَةِ لِيَكُونَ عِبْرَةً، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ، وَلَيْسَ الْمَنِيُّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ أَوْ مَقِيسًا عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: وَأَيُّ مِنَّةٍ أَعْظَمُ وَأَرْفَعُ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ الْمُكَرَّمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ «٣» "، وَقَالَ:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً «٤» " وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِامْتِنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِخُرُوجِهِ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، قُلْنَا: هُوَ مَا أَرَدْنَاهُ، فَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ وَأَصْلُهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَخْرَجَهُ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَخَاصَّةً الْمَرْأَةَ، فَإِنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ مِنْهَا وَمَخْرَجَ الْوَلَدِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ عَلَى مَا قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فَإِنْ قِيلَ: أَصْلُهُ دَمٌ فَهُوَ نَجِسٌ، قُلْنَا يَنْتَقِضُ بِالْمِسْكِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ دَمٌ وَهُوَ طَاهِرٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَابِسًا بِظُفُرِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُفْرَكْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وكان سعد

(١). راجع ج ٧١ ص ١٢٨.
(٢). الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الحكم.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٤.
(٤). راجع ص ١٤٢ من هذا الجزء.


الصفحة التالية
Icon