السَّالِفَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الْمَاضِيَةِ، فَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرِيعَةِ أَمْرِهِ. وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ، يَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ، وَيَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ، وَيَأْوِي حَيْثُ جَنَّهُ اللَّيْلُ، لَا مَسْكَنَ لَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الرَّابِعَةُ- الْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَتُفْهِمُ مَا يُفْهِمُ الْقَوْلُ. كَيْفَ لَا وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَرْيَمَ فَقَالَ:" فَأَشارَتْ إِلَيْهِ" وَفَهِمَ مِنْهَا الْقَوْمُ مَقْصُودَهَا وَغَرَضَهَا فَقَالُوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ) وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" آلِ عِمْرَانَ" «١» مُسْتَوْفًى. الْخَامِسَةُ- قَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَصِحُّ قَذْفُ الْأَخْرَسِ وَلَا لِعَانُهُ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَإِنَّمَا يصح القذف عندهم بصريح الزنى دُونَ مَعْنَاهُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَخْرَسِ ضرورة، فلم يكن قاذفا، ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطي الْحَلَالِ وَالشُّبْهَةِ. قَالُوا: وَاللِّعَانُ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ، وَشَهَادَةُ الْأَخْرَسِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: قَوْلُهُمْ إِنَّ الْقَذْفَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ مَا عَدَا الْعَرَبِيَّةَ، فَكَذَلِكَ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي شَهَادَةِ الْأَخْرَسِ فَغَلَطٌ. وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ بِالشَّهَادَةِ، وَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ بِاللَّفْظِ فَلَا تَقَعُ مِنْهُ إِلَّا بِاللَّفْظِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْمُخَالِفُونَ يُلْزِمُونَ الْأَخْرَسَ الطَّلَاقَ وَالْبُيُوعَ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَقَدْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ أَقْوَى مِنَ الْكَلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ) نَعْرِفُ قُرْبَ مَا بَيْنَهُمَا بِمِقْدَارِ زِيَادَةِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْعُقُولِ عَلَى أَنَّ الْعِيَانَ أَقْوَى مِنَ الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَقْوَى مِنَ الْكَلَامِ. (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) أَيِ السَّلَامَةُ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذُكِرَ السَّلَامُ قَبْلَ هَذَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فحسن في الثانية ذكر الالف واللام. وقوله: (يَوْمَ وُلِدْتُ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مِنْ هَمْزِ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «٢». (وَيَوْمَ أَمُوتُ) يعني
(٢). راجع ج ٤ ص ٨١ وص ٦٨.