وَيُعْبَدَ الصِّغَارُ مَعَهُ فَفَعَلَ هَذَا بِهَا لِذَلِكَ، إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَاسْأَلُوهُمْ. فَعَلَّقَ فِعْلَ الْكَبِيرِ بِنُطْقِ الْآخَرِينَ، تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ. كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ هُوَ الْفَاعِلُ إِنْ نَطَقَ هَؤُلَاءِ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ في قوله:" فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ". وَقِيلَ: أَرَادَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لا يتكلم ولا يعلم ولا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ. وَكَانَ قَوْلُهُ مِنَ الْمَعَارِيضِ، وَفِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ. أَيْ سَلُوهُمْ إِنْ نَطَقُوا فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يَنْطِقُونَ فَلَيْسَ هُوَ الْفَاعِلَ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْكَلَامِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ:" يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
" «١» [مريم: ٤٢]- الْآيَةَ- فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا" لِيَقُولُوا إِنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، فَيَقُولُ لَهُمْ فَلِمَ تَعْبُدُونَهُمْ؟ فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأُمَّةِ فَرْضُ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ، كَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ:" هَذَا رَبِّي" «٢» وهذه أختي و" إِنِّي سَقِيمٌ" «٣» وَ" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا" وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ" بَلْ فَعَلَّهُ" بِتَشْدِيدِ اللَّامِ بِمَعْنَى فَلَعَلَّ الْفَاعِلَ كَبِيرُهُمْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ:" بَلْ فَعَلَهُ" أَيْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ" كَبِيرُهُمْ هَذَا". وَقِيلَ: أَيْ لَمْ ينكرون أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ؟ فَهَذَا إِلْزَامٌ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. أَيْ مَنِ اعْتَقَدَ عِبَادَتَهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ لَهَا فِعْلًا، وَالْمَعْنَى: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فِيمَا يَلْزَمُكُمْ. الثَّانِيَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النبي في شي قط إلا في ثلاث:" إِنِّي سَقِيمٌ" [الصافات: ٨٩] وَقَوْلُهُ: لِسَارَةَ أُخْتِي وَقَوْلُهُ:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ" (لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَوَقَعَ فِي الْإِسْرَاءِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ" هَذَا رَبِّي". فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَذِبَاتُ أَرْبَعًا إِلَّا أن الرسول عليه السلام قَدْ نَفَى تِلْكَ بِقَوْلِهِ: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثِ كَذِبَاتٍ ثِنْتَيْنِ في ذات الله قوله:
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٥.
(٣). راجع ج ١٥ ص ١٩ فما بعد.