عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمُوسَى وَمُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، وَإِلَّا فَضَرْبُ الْعَصَا لَيْسَ بِفَارِقٍ لِلْبَحْرِ، وَلَا مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ بِذَاتِهِ إِلَّا بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِرَاعِهِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «١» قِصَّةُ هَذَا الْبَحْرِ. وَلَمَّا انْفَلَقَ صَارَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا عَلَى عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَقَفَ الْمَاءُ بَيْنَهَا كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَالطَّوْدُ الْجَبَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ طَوْدٌ رَمَاهُ النَّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمَالَا
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ:
حَلُّوا بِأَنْقِرَةٍ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْفُرَاتِ يجئ مِنْ أَطْوَادِ
جَمْعُ طَوْدٍ أَيْ جَبَلٍ. فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا، فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" يُونُسَ" «٢» انْصَبَّ عَلَيْهِمْ وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى: مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ، فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلَانِ مِنَ التُّجَّارِ إِلَى الْبَحْرِ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَيْهِ قَالَا لَهُ بِمَ أَمَرَكَ اللَّهُ؟ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَنْفَلِقُ، فَقَالَا لَهُ: افْعَلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ فَلَنْ يُخْلِفَكَ، ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أَيْ قَرَّبْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ
أَبُو عُبَيْدَةَ:" أَزْلَفْنا" جَمَعْنَا وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةُ جَمْعٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَرِثِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ:" وَأَزْلَفْنا" بِالْقَافِ عَلَى مَعْنَى أَهْلَكْنَاهُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: أَزَلَقَتِ النَّاقَةُ وَأَزْلَقَتِ الْفَرَسُ فَهِيَ مُزْلِقٌ إِذَا أَزَلَقَتْ وَلَدَهَا. (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أَيْ عَلَامَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تعالى.
(١). راجع ج ١ ص ٣٨٩ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٧٨ طبعه أولى أو ثانية.


الصفحة التالية
Icon