الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا رُفِعَ مَا بَعْدَ" إِلَّا" لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا جَحْدٌ، كَقَوْلِهِ: مَا ذَهَبَ أَحَدٌ إِلَّا أَبُوكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ نَصَبَ نَصَبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، يَعْنِي فِي الْكَلَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُهُ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ صَدَّقَ مُنَجِّمًا، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكْفُرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْأَنْعَامِ" «١» مُسْتَوْفًى. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ مُنَجِّمٌ فَاعْتَقَلَهُ الْحَجَّاجُ، ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَعَدَّهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: كَمْ فِي يَدِي مِنْ حَصَاةٍ؟ فَحَسَبَ الْمُنَجِّمُ ثُمَّ قَالَ: كَذَا، فَأَصَابَ. ثُمَّ اعْتَقَلَهُ فَأَخَذَ حَصَيَاتٍ لَمْ يَعُدُّهُنَّ فَقَالَ: كَمْ فِي يَدِي؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ ثُمَّ حَسَبَ فَأَخْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَظُنُّكَ لَا تَعْرِفُ عَدَدَهَا، قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنِّي لَا أُصِيبُ. قَالَ: فَمَا الْفَرْقُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ أَحْصَيْتَهُ فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْغَيْبِ، وَهَذَا لَمْ تُحْصِهِ فَهُوَ غَيْبٌ وَ" لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" آلِ عِمْرَانَ" «٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) هَذِهِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْهُمْ عَاصِمٌ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحُمَيْدٌ:" بَلْ أَدْرَكَ" مِنَ الْإِدْرَاكِ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَأَخُوهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْأَعْمَشُ «٣» " بَلْ ادَّرَكَ" غَيْرَ مَهْمُوزٍ مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ ابن محيصن:" بل أأدرك" عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" بَلَى" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ" أَدَّارَكَ" بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ وَأَلِفٌ بَعْدَهَا، قَالَ النَّحَّاسُ: وَإِسْنَادُهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، هُوَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ يَرْفَعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وزعم هرون الْقَارِئُ أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ" بَلْ تَدَارَكَ عِلْمُهُمْ" الْقِرَاءَةُ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، لِأَنَّ أَصْلَ" ادَّارَكَ" تدارك، أدغمت الدال في التاء وجئ بِأَلِفِ الْوَصْلِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى بَلْ تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا كُلَّ مَا وُعِدُوا بِهِ مُعَايَنَةً فَتَكَامَلَ علمهم

(١). راجع ج ٧ ص ١ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(٢). راجع ج ٤ ص ١٧ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). لم تذكر كتب التفسير الأخرى الأعمش في هذه القراءة. ولعل هذه رواية أخرى عنه غير الرواية المتقدمة. [..... ]


الصفحة التالية
Icon