قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ قُدُورُ النُّحَاسِ تَكُونُ بِفَارِسَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ قُدُورٌ تُعْمَلُ مِنَ الْجِبَالِ. غَيْرُهُ: قَدْ نُحِتَتْ مِنَ الْجِبَالِ الصُّمِّ مِمَّا عَمِلَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ، أَثَافِيُّهَا «١» مِنْهَا مَنْحُوتَةٌ هَكَذَا مِنَ الْجِبَالِ. وَمَعْنَى" راسِياتٍ" ثَوَابِتُ، لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُدُورُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، يُصْعَدُ إِلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُلَّمٍ. وَعَنْهَا عَبَّرَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ:

كَالْجَوَابِي لَا تَنِي مُتْرَعَةً لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لِلْمُحْتَضِرِ
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَرَأَيْتُ بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ قُدُورَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَطْبُخُونَ جَمِيعًا وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْثَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) قَدْ مَضَى مَعْنَى الشُّكْرِ فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» وَغَيْرِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: (ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ) قَالَ فَقُلْنَا: مَا هُنَّ. فَقَالَ: (الْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ. وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (يَا رَبِّ كَيْفَ أُطِيقُ شُكْرَكَ عَلَى نِعَمِكَ. وَإِلْهَامِي وَقُدْرَتِي عَلَى شُكْرِكَ نِعْمَةٌ لَكَ) فَقَالَ: (يَا دَاوُدُ الْآنَ عَرَفْتَنِي). وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ" «٣». وَأَنَّ الشُّكْرَ حَقِيقَتُهُ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَتِهِ، وَالْكُفْرَانُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ مِنَ الشَّرِّ، وَالطَّاعَةُ أَقَلُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، بِحَسَبِ سَابِقِ التَّقْدِيرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" قَالَ دَاوُدُ لِسُلَيْمَانَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَكَرَ الشُّكْرَ فَاكْفِنِي صَلَاةَ النَّهَارِ أَكْفِكَ صَلَاةَ اللَّيْلِ، قَالَ: لَا أَقْدِرُ، قَالَ: فَاكْفِنِي- قَالَ الْفَارَيَابِيُّ، أُرَاهُ قَالَ إِلَى صَلَاةِ الظهر- قال نعم، فكفاه. وقال الزهري:
(١). الأثافي (جمع الأثفية): ما يوضع عليه القدر.
(٢). راجع ج ١ ص ٣٩٧ فما بعد.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣٤٣.


الصفحة التالية
Icon