وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ" «١» [نوح: ٤] فَأَضَافَ الْأَجَلَ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ:" فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً" «٢» [الأعراف: ٣٤] إِذْ كَانَ الْأَجَلُ لَهُمْ. وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِكَ: لَيْلُهُ قَائِمٌ وَنَهَارُهُ صَائِمٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ بَلْ مَكْرُكُمُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ. وَأَنْشَدَ لِجَرِيرٍ:

لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى هَمِّي
أَيْ نِمْتُ فِيهِ. ونظيره:" وَالنَّهارَ مُبْصِراً" «٣» [يونس: ٦٧]. وَقَرَأَ قَتَادَةُ:" بَلْ مَكْرٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" بِتَنْوِينٍ" مَكْرٌ" وَنَصْبِ" اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَكْرٌ كَائِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَحُذِفَ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ" بَلْ مَكَرُّ" بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ الرَّاءِ بِمَعْنَى الْكُرُورِ، وَارْتِفَاعُهُ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ" أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ" كَأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُمْ أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى قَالُوا بَلْ صَدَّنَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ" قَالَ: مَرَّ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِمْ فَغَفَلُوا. وَقِيلَ: طُولُ السَّلَامَةِ فِيهِمَا كقوله" فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ" «٤» [الحديد: ١٦]. وَقَرَأَ رَاشِدٌ" بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ" بِالنَّصْبِ، كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُهُ مَقْدَمَ الْحَاجِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِيمَا يُعَرَّفُ، لَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُهُ مَقْدَمَ زَيْدٍ، لَمْ يَجُزْ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أَيْ أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا وَنُظَرَاءَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: فُلَانٌ نِدُّ فُلَانٍ، أَيْ مِثْلُهُ. وَيُقَالُ نَدِيدٌ، وَأَنْشَدَ:
أَيْنَمَا تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا وَمَا أَنْتُمْ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدِ
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي الْبَقَرَةِ" «٥»." وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ" أَيْ أَظْهَرُوهَا، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ عَلَيَّ حِرَاصًا لو يسرون مقتلي «٦»
(١). راجع ج ١٨ ص ٢٩٩ فما بعد.
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٠١ فما بعد.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٦٠.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٢٤٨ فما بعد.
(٥). راجع ج ١ ص (٢٣٠)
(٦). هذه رواية البيت كما في نسخ الأصل والديوان وروايته كما في المعلقات:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا على حراصا لو يشرون مقتلي
(يشرون) بالشين المعجمة: يظهرون.


الصفحة التالية
Icon