وقال أبو عبيد: ناظرت بعض الملحدة فَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ:" فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ"!؟ فَقُلْتُ: وَهَلْ كَانَ أَحَدٌ يَسُبُّ اللَّهَ فِي آبَادِ الدَّهْرِ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
إِنْ مَحِلًّا وَإِنْ مُرْتَحِلًا | وَإِنَّ فِي السَّفَرِ إِذْ مَضَوْا مَهَلَا |
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَبِالْعَدْ | لِ وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا |
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَذُمُّوا الدَّهْرَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ، حَتَّى ذَكَرُوهُ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَنَسَبُوا الْأَحْدَاثَ إِلَيْهِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ:
رَمَتْنِي بَنَاتُ الدَّهْرِ مِنْ حَيْثُ لَا أَرَى | فَكَيْفَ بِمَنْ يُرْمَى وَلَيْسَ بِرَامٍ |
فَلَوْ أَنَّهَا نِبْلٌ إِذًا لَاتَّقَيْتُهَا | وَلَكِنَّنِي أُرْمَى بِغَيْرِ سِهَامِ |
عَلَى الرَّاحَتَيْنِ مَرَّةً وَعَلَى الْعَصَا | أَنُوءُ ثَلَاثًا بَعْدَهُنَّ قِيَامِي |
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ. يُنْسِبُونَ ذَلِكَ إِلَى الدَّهْرِ وَيُضِيفُونَهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَاعِلُ لَا رَبَّ سِوَاهُ." وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ". أي علم. و" من" زَائِدَةٌ، أَيْ قَالُوا
«١» مَا قَالُوا شَاكِّينَ." إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" أَيْ مَا هُمْ إِلَّا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصْنَافًا، مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُثْبِتُ الصَّانِعُ وَيُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَشُكُّ فِي الْبَعْثِ وَلَا يَقْطَعُ بِإِنْكَارِهِ. وَحَدَّثَ فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَامٌ لَيْسَ يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُ الْبَعْثِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَأَوَّلُونَ وَيَرَوْنَ الْقِيَامَةَ مَوْتَ الْبَدَنِ، وَيَرَوْنَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِلَى خَيَالَاتٍ تَقَعُ لِلْأَرْوَاحِ بِزَعْمِهِمْ، فَشَرُّ هَؤُلَاءِ أَضَرُّ مِنْ شَرِّ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يُلَبِّسُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُغْتَرُّ بِتَلْبِيسِهِمُ الظَّاهِرِ. وَالْمُشْرِكُ الْمُجَاهِرُ بِشِرْكِهِ يَحْذَرُهُ الْمُسْلِمُ. وَقِيلَ: نَمُوتُ وَتَحْيَا آثَارُنَا، فَهَذِهِ حَيَاةُ الذِّكْرِ. وَقِيلَ أَشَارُوا إِلَى التَّنَاسُخِ، أَيْ يَمُوتُ الرَّجُلُ فَتُجْعَلُ رُوحُهُ فِي موات فتحيا به.
[سورة الجاثية (٤٥): الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦)