لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تُنْفَى عَنْ مُنْتَسِبَاتِهَا «١». أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْتَسَبُ إِلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ هَاشِمِيٌّ وَلَيْسَ بِهِلَالِيٍّ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ هِلَالِيَّةً. قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُوَ وَلَدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي اللُّغَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْوِلَادَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ مِنْ قَوْلِ الله تعالى" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ" [النساء: ٢٣]. وَقَالَ تَعَالَى" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ- إِلَى قَوْلِهِ- مِنَ الصَّالِحِينَ" «٢» [الانعام: ٨٥ - ٨٤] فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ ابْنُ بِنْتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتِنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
قِيلَ لَهُمْ: هَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّمَا هُوَ وَلَدُ بَنِيهِ الذُّكْرَانِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمْ حُكْمُ بَنِيهِ فِي الْمُوَارَثَةِ وَالنَّسَبِ، وَإِنَّ وَلَدَ بَنَاتِهِ لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ بَنَاتِهِ فِي ذَلِكَ، إِذْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى غَيْرِهِ فَأَخْبَرَ بِافْتِرَاقِهِمْ بِالْحُكْمِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي التَّسْمِيَةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ اسْمَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ ابْنٌ، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ فِي وَلَدِهِ لَيْسَ هُوَ بِابْنِي إِذْ لَا يُطِيعُنِي وَلَا يَرَى لِي حَقًّا، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْيَ اسْمِ الْوَلَدِ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حُكْمَهُ. وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لَا يُسَمَّى وَلَدًا فَقَدْ أَفْسَدَ مَعْنَاهُ وَأَبْطَلَ فَائِدَتَهُ، وَتَأَوَّلَ عَلَى قَائِلِهِ مَا لَا يَصِحُّ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى وَلَدُ الِابْنِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ابْنًا، وَلَا يُسَمَّى وَلَدُ الِابْنَةِ ابْنًا، مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادَةِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا اسْمُ الْوَلَدِ فِيهِ أَبْيَنُ وَأَقْوَى، لِأَنَّ وَلَدَ الِابْنَةِ هُوَ وَلَدُهَا بِحَقِيقَةِ الْوِلَادَةِ، وَوَلَدَ الِابْنِ إِنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ بِمَالِهِ مِمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْوِلَادَةِ. وَلَمْ يُخْرِجْ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنْ حَبْسٍ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فِي اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُمْ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُوَارَثَةِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْأَنْعَامِ" «٣» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. اللَّفْظُ الثَّالِثُ- الذُّرِّيَّةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ لِقَوْلِهِ" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ- إِلَى أَنْ قَالَ- وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى " [الانعام: ٨٥ - ٨٤]. وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «٤» اشْتِقَاقُ الذُّرِّيَّةِ وَفِي" الانعام" الكلام على" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ" [الانعام: ٨٤] الآية، فلا معنى للإعادة.
(١). في نسخة من الأصل:" مشبهاتها". وفي ابن العربي" مسمياتها".
(٢). آية ٨٤ سورة الانعام.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣١.
(٤). راجع ج ٢ ص ١٠٧ طبعه ثانية.


الصفحة التالية
Icon