حَقُّهُ الْمَتِينَةُ فَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِهَا إِلَى الشَّيْءِ الْمُبْرَمِ الْمُحْكَمِ الْفَتْلِ، يُقَالُ: حَبْلٌ مَتِينٌ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:

لِكُلِّ دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتُ أَثْوُبَا حَتَّى اكْتَسَى الرَّأْسُ قِنَاعًا أَشْيَبَا
مِنْ رَيْطَةٍ وَالْيُمْنَةِ الْمُعَصَّبَا
فَذَكَرَ الْمُعَصَّبَ، لِأَنَّ الْيُمْنَةَ صِنْفٌ مِنَ الثِّيَابِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) «١» أي وعظ (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) «٢» أَيِ الصِّيَاحُ وَالصَّوْتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ (ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أَيْ نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ مِثْلَ نَصِيبِ الْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ يَوْمٌ ذَنُوبٌ أَيْ طَوِيلُ الشَّرِّ لَا يَنْقَضِي. وَأَصْلُ الذَّنُوبِ فِي اللُّغَةِ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ، وَكَانُوا يَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَيَقْسِمُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْصِبَاءِ فَقِيلَ لِلذَّنُوبِ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا، قَالَ الرَّاجِزُ:
لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبٌ فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ
وَقَالَ عَلْقَمَةُ:
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وَقَالَ آخَرُ «٣»:
لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا طَارِقَاتٌ لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ
الْجَوْهَرِيُّ: وَالذَّنُوبُ الْفَرَسُ الطَّوِيلُ الذَّنَبِ، وَالذَّنُوبُ النَّصِيبُ، وَالذَّنُوبُ لَحْمٌ أَسْفَلَ الْمَتْنِ، وَالذَّنُوبُ الدَّلْوُ الْمَلْأَى مَاءً. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: فِيهَا مَاءٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمِلْءِ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، وَلَا يُقَالُ لَهَا وَهِيَ فَارِغَةٌ ذَنُوبٌ، وَالْجَمْعُ فِي أَدْنَى الْعَدَدِ أَذْنِبَةٌ وَالْكَثِيرِ ذَنَائِبٌ، مِثْلُ قَلُوصٌ وَقَلَائِصُ. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أَيْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) «٤» فَنَزَلَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَا حَقَّقَ بِهِ وَعْدَهُ وَعَجَّلَ بِهِمُ انْتِقَامَهُ، ثُمَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ الدَّائِمُ، وَالْخِزْيُ الْقَائِمُ، الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ
(١). راجع ج ٣ ص (٣٥٩)
(٢). راجع ج ٩ ص (٦١)
(٣). قائله أبو ذؤيب.
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٣٧ وج ٩ ص ٢٧


الصفحة التالية
Icon