الرَّابِعَةُ- اخْتُلِفَ فِي الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ غَيْرَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُحْرَمَ بِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ حَجِّهِ وَيَكُونُ عُمْرَةً، كَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهُ لَا تُجْزِيهِ وَتَكُونُ نَافِلَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَذَا مَكْرُوهٌ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كُلِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ" [البقرة: ١٨٩] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّ تِلْكَ عَامَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ النَّصِّ عَلَى بَعْضِ أَشْخَاصِ الْعُمُومِ، لِفَضْلِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ" أَيْ أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ. وَلَيْسَتِ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَكْفِي النِّيَّةُ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَأَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَغَيْرُهُمْ. وَأَصْلُ الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الْحَزُّ وَالْقَطْعُ، وَمِنْهُ فُرْضَةُ «١» الْقَوْسِ وَالنَّهَرِ وَالْجَبَلِ. فَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ لَازِمَةٌ لِلْعَبْدِ الْحُرِّ كلزوم الخز لِلْقَدَحِ. وَقِيلَ:" فَرَضَ" أَيْ أَبَانَ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أَبَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَ" مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمَعْنَاهَا الشَّرْطُ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ:" فَرَضَ"، لِأَنَّ" مَنْ" لَيْسَتْ بِمَوْصُولَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَجُلٌ فَرْضٌ. وَقَالَ:" فِيهِنَّ" وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ أَبُو عُثْمَانَ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ لِمَا لَا يَعْقِلُ يَأْتِي كَالْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَالْقَلِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرْنَ، وَالْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:" إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ" [التوبة: ٣٦] ثم قال:" مِنْها".