الْمَسْأَلَةِ عِفَّةً تَامَّةً، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَكُونُ التَّعَفُّفُ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ، أَيْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَاحًا وَلَا غَيْرَ إِلْحَاحٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْإِلْحَافِ، أَيْ إِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَهَذَا هُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ، أَيْ يَسْأَلُونَ غَيْرَ مُلْحِفِينَ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سُوءِ حَالَةِ مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا. رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ". وَفِي الْمُوَطَّأِ" عَنْ زيد بن أسلم عن عطاء ابن يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ «١» فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ" فَتَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّهُ يَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا «٢» ". قَالَ الْأَسَدِيُّ: فَقُلْتُ لَلَقْحَةٌ «٣» لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ- قَالَ مَالِكٌ: وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا- قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيبٍ «٤» فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ حُكْمُ الصَّحَابِيِّ «٥» إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَحُكْمِ مَنْ دُونَهُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، لِارْتِفَاعِ الْجُرْحَةِ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَثُبُوتِ الْعَدَالَةِ لَهُمْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مَكْرُوهٌ لِمَنْ لَهُ أُوقِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ هَذَا الْحَدُّ وَالْعَدَدُ وَالْقَدْرُ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَيَكُونُ عِدْلًا مِنْهَا فَهُوَ مُلْحِفٌ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ السُّؤَالَ لِمَنْ لَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ عِدْلُهَا مِنَ الذَّهَبِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَمَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يأكله
(٢). الحديث كما في الطبعة الهندية. وفى الأصول: فقد ألحف.
(٣). اللقحة (بفتح اللام وكسرها): الناقة ذات لبن القريبة العهد بالنتاج.
(٤). في ب: وزيت.
(٥). في الأصول:" الصاحب".